تحوّلات الوعي اللغوي في ظلّ الذكاء الاصطناعي: "تشات جي بي تي" كحالة تطبيقية

تحوّلات الوعي اللغوي في ظلّ الذكاء الاصطناعي: "تشات جي بي تي" كحالة تطبيقية

الذكاء الاصطناعي التوليدي غيّر بنية اللغة البشرية، فقلّص الإبداع وأضعف الطابع الإنساني في التواصل.
تحوّلات الوعي اللغوي في ظلّ الذكاء الاصطناعي: "تشات جي بي تي"  كحالة تطبيقية
صورة تعبيرية
Smaller Bigger
* نانسي بدران

 

أحدثت الثورة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، ممثلة بنماذج اللغة الضخمة مثل "تشات جي بي تي"، تحوّلاً جذرياً في طرائق التواصل البشري. فخلال فترة قصيرة، أصبحت هذه النماذج جزءاً من حياتنا اليومية، تكتب رسائلنا، وتصوغ أفكارنا، وتشاركنا القرارات. إلا أن هذا الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي اللغوي بدأ يترك أثراً عميقاً في بنية اللغة ذاتها، وفي طبيعة التفكير البشري. إن ما يصفه بعض الباحثين بـChatGPTification للغة، أي تسطيحها وتوحيدها، يشير إلى فقدان تدريجي للتنوّع الأسلوبي وللأبعاد العاطفية والإنسانية في الخطاب المعاصر.

 

اللغة المسطّحة وعواقبها المعرفية
تشير الدراسات الحديثة إلى أن الكتابة بمساعدة الذكاء الاصطناعي تتسم بقدر عالٍ من الدقة النحوية والاتساق المنطقي، لكنها تخلو من السمات التي تميّز الإنسان — الخطأ، التردد، الفكاهة، والانفعال. هذه السمات التي كانت تعكس هشاشتنا وصدقنا العاطفي أُزيحت لصالح خطاب "محايد" و"مثالي"، يبدو في ظاهره متقناً، لكنه يفتقر إلى العمق الإنساني. وهكذا نشأت ظاهرة "اللغة المسطّحة"، حيث تُختزل الجمل في تراكيب قصيرة ومباشرة، خالية من الانزياح البلاغي أو النبرة الشخصية.

 

من منظور معرفي، يرى باحثو معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) أن الاعتماد على أدوات مثل "تشات جي بي تي" يؤدي إلى تراجع النشاط الذهني المرتبط بالإبداع وحلّ المشكلات. فالآلة تُنتج النص عبر استقراء الاحتمالات الأكثر تكراراً في البيانات، ما يدفع الإنسان إلى تقليد هذا النمط "المتوسّط" دون وعي. وبهذا يصبح التفكير نفسه عملية آلية، خارجية، تُدار من نموذج لغوي لا من ذهن بشري.

 

تحيّزات لغوية خفيّة
تُظهر بحوث في علم اللغة الحاسوبي أن "تشات جي بي تي" لا يعبّر عن حياد لغوي مطلق؛ إذ يحمل في بنيته التكوينية آثاراً للبيئات اللغوية والثقافية التي دُرّب عليها. فالمراجعون البشريون الذين يقيّمون أداء النماذج قد ينتمون إلى خلفيات لغوية متباينة، ما يؤدي إلى انتشار مفردات وأشكال تعبير غير مألوفة في بعض اللهجات أو السياقات. ومن ثم، بدأت تظهر أنماط لغوية موحّدة عالمياً تهيمن على الخطاب الرقمي، تُضعف التنوّع الثقافي واللساني الذي كان يثري التواصل البشري سابقاً.

 

من فقدان الأصالة إلى تآكل الثقة
لا يقتصر تأثير "تشات جي بي تي" على البنية اللغوية، بل يمتد إلى العلاقات الإنسانية ذاتها. فقد أظهرت أبحاث في جامعة كورنيل أن الشك في كون الرسالة مكتوبة بيد إنسان أم آلة يؤدّي إلى تراجع مستويات الثقة بين المتحاورين. فالكلمة التي تُكتب بلا عاطفة أو تردد لا تُقنع المتلقي بصدقها، مهما بلغت من دقة نحوية. وبهذا تتراجع "علامات الإنسانية" في التواصل: الخطأ، الأسلوب الشخصي، والمفارقة الساخرة — وهي جميعها مكوّنات جوهرية لبناء المصداقية العاطفية والاجتماعية.

 

صورة تعبيرية مولّدة بالذكاء الاصطناعي
صورة تعبيرية مولّدة بالذكاء الاصطناعي

 

 

التعليم والتفكير المعلّب
في المجال الأكاديمي، بدأت الجامعات تواجه تحدياً غير مسبوق في التمييز بين ما يكتبه الطلاب بأنفسهم وما يُنتج عبر الذكاء الاصطناعي، إذ باتت النصوص "المولّدة" تتشابه في أسلوبها ومفرداتها، خالية من البصمة الفردية أو الرأي النقدي. يشير أساتذة علم اللغة التطبيقي إلى أن هذا النمط من الكتابة يُضعف ملكة التعبير الشخصي، ويدفع الطلبة إلى الاكتفاء بالمعنى العام دون الغوص في التفاصيل أو تكوين موقف فكري مستقل. ومع الوقت، تتحول الكتابة الأكاديمية من نشاط فكري إلى تمرين تقني، هدفه إنتاج نص "جيد" لا "صادق".

 

اللغة كمرآة للعقل
تُجمع الدراسات الحديثة على أن "تشات جي بي تي"  يمثل "تكنولوجيا المتوسطات"؛ فهو لا يبتكر بل يعيد إنتاج أكثر الأنماط احتمالاً في اللغة. وهذه الخاصية، وإن بدت نافعة في تبسيط التواصل، تُفضي إلى ما يمكن وصفه بـ"توحيد الوعي اللغوي"، أي إن البشر والنماذج معاً يدخلون في حلقة تغذية راجعة: يكتب الإنسان بأسلوب الآلة، ثم تتعلم الآلة من نصوص الإنسان المتأثرة بها، فتصبح اللغة كلها انعكاساً لنسق واحد متكرر.

إن الخطر الحقيقي الذي يطرحه "تشات جي بي تي"  لا يتمثل في فقدان الإبداع فحسب، بل في تآكل الرغبة في الإبداع. فحين تصبح اللغة مريحة وسلسة إلى حدٍّ يجعلنا نتخلى عن جهد التفكير والتعبير، نفقد شيئاً من ماهيتنا الإنسانية. إن مقاومة “اللغة الموحّدة” التي تفرضها النماذج التوليدية ليست مجرد دفاع عن الجمال اللغوي، بل دفاع عن استقلال الوعي ذاته. فاللغة ليست أداة فحسب، بل هي وجه الفكر، ومتى ما فقدت ملامحها البشرية، فقدنا نحن قدرتنا على أن نكون مختلفين.

 

* الدكتورة نانسي بدران، مهندسة حلول الحوسبة للمشاريع السحابية في الحكومة الفيديرالية – أوتاوا، كندا

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/4/2025 6:56:00 PM
شقيق الضحية: "كان زوجها يمسك دبوسا ويغزها في فمها ولسانها كي لا تتمكن من تناول الطعام".
ثقافة 11/2/2025 10:46:00 AM
"والدي هو السبب في اكتشاف المقبرة، وكان عمره وقتها 12 عاماً فقط سنة 1922."
لبنان 11/3/2025 11:23:00 PM
الفيديو أثار ضجة وغضباً بين الناشطين، حيث اعتبر كثيرون أن استخدام الهواتف والإضاءة الساطعة داخل هذا المعلم السياحي يؤثر على السياح هناك.
لبنان 11/4/2025 8:47:00 AM
دعت هيئة قضاء جبيل القوى الأمنية المختصة إلى التحرّك الفوري واتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاسبة الفاعلين