"تسوّس الدماغ الرقمي"… كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي طريقة تفكيرنا؟
في العامين الأخيرين، بدأ مصطلح "تسوّس الدماغ" (Brain Rot) يتصدّر النقاشات الثقافية والإعلامية حول أثر المحتوى الرقمي السريع في قدراتنا الذهنية.
تعبير ساخر في بدايته على مواقع التواصل، لكنه تحوّل مع الوقت إلى وصف دقيق لحالة يعيشها كثيرون في عصر المقاطع القصيرة والمنشورات الخاطفة:
مع ذلك الإحساس بتراجع التركيز وتضعف القدرة على التفكير العميق نتيجة التعرّض المستمر لمحتوى سطحي وغير محفّز.
وفي عام 2024، أعلنت دار نشر جامعة أوكسفورد اختيار كلمة Brain Rot "تسوّس الدماغ" كلمة العام، موضحة أنها تعبّر عن
"تدهور الحالة الذهنية أو الفكرية نتيجة الإفراط في استهلاك محتوى تافه أو غير محفّز، خصوصاً عبر الإنترنت".
وهكذا لم يعد المصطلح مجرّد نكتة متداولة، بل توصيف ثقافي لعصرٍ يفضّل السرعة على العمق.
من المجاز إلى المختبر
في حزيران/ يونيو 2025، نشر فريق من معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT ) دراسة بعنوان
Your Brain on ChatGPT: Accumulation of Cognitive Debt when Using an AI Assistant for Essay Writing Task.
راقب الباحثون النشاط العصبي لدى ثلاث مجموعات أثناء كتابة مقالات قصيرة:
إحدى المجموعات استعانت بمساعد ذكاء اصطناعي (LLM Assistant)،
وأخرى استخدمت محرك بحث،
والثالثة كتبت اعتماداً على الذاكرة وحدها.
أظهرت النتائج أن المشاركين الذين استخدموا المساعد الذكي سجّلوا نشاطاً دماغياً أقل في مناطق التفكير والتحليل مقارنة بالمجموعتين الأخريين.
لا يعني ذلك وجود "ضرر" في الدماغ، بل إنّ الأداة تخفّف العبء المعرفي وتقلّل الجهد الذهني المطلوب لصوغ الأفكار، وهي نتيجة قد تحمل جانباً إيجابياً (الكفاءة) وجانباً مقلقاً (انخفاض الانخراط الذهني).

الدين المعرفي… راحة اليوم وتعب الغد
وصف باحثو MIT هذا التأثير بمصطلح "الدَّين المعرفي" (Cognitive Debt)،
أي الفجوة التي تنشأ حين يعتاد الإنسان على تفويض مهماته الذهنية الى الأدوات الذكية.
فكما يمنح الدَّين المالي فائدة فورية يعقبها التزام طويل الأمد، يمنح الاعتماد على الذكاء الاصطناعي راحة موقتة تُدفع لاحقًا من رصيد القدرات التحليلية والإبداعية.
كل مرة نترك فيها الأداة تولّد فكرة أو تصيغ جملة نيابةً عنّا، نتجنّب جهداً ذهنياً لحظياً، لكننا نخسر تدريباً كان يمكن أن يقوّي مهارات التفكير المستقل.
وإن تكرّر ذلك، قد يتكوّن لدينا اعتماد معرفي يجعل الكتابة أو التحليل من دون مساعدة رقمية أكثر صعوبة.
ما بين القلق والإمكان
لا تُقدّم هذه النتائج حكماً نهائياً على الذكاء الاصطناعي - فالدراسة لاتزال أولية ولم تُراجع بعد من خبراء مستقلين - لكنها تطرح سؤالًا عميقاً:
هل يغيّر الاعتماد المتزايد على الخوارزميات طريقة تفكيرنا فعلاً؟
فهو يوفّر الوقت، ويوسّع منظورنا، ويساعد في توليد الأفكار.
لكن المشكلة ليست في التقنية نفسها، بل في طريقة تعاملنا معها.
فحين تتحوّل من وسيلة مساعدة إلى بديلٍ دائم، يصبح الإنسان مستهلكاً للفكر أكثر منه منتجاً له.
لياقة الذهن في عصر الخوارزميات
"تسوّس الدماغ" ليس مرضاً، بل مرآة لعصرٍ يختار السرعة على العمق.
وكما يحتاج الجسد إلى حركة يومية ليبقى سليماً، يحتاج الذهن إلى تمرين فكري مستمر ليحافظ على لياقته.
القراءة المتأنّية، والكتابة اليدوية، والنقاشات الفكرية، هي شكل من أشكال الرياضة العقلية التي تحافظ على مرونة الفكر واستقلاليته.
الذكاء الاصطناعي، في جوهره، ليس عدواً للعقل البشري،
بل اختبار لقدرتنا على استخدام أدواتنا بذكاء.
فالسؤال الحقيقي ليس إن كان الذكاء الاصطناعي سيفسد أدمغتنا،
بل: هل سنظلّ نرغب في التفكير بأنفسنا حين تصبح الآلة قادرة على التفكير بالنيابة عنّا؟
نبض