الذكاء الاصطناعي والجريمة المنظمة: واقع جديد للتحدي القانوني
*د. إسلام محمد سرور
يشهد العالم المعاصر تحوّلاً جذرياً في طبيعة الجريمة المنظمة، إذ لم تعد تقتصر على أنماطها التقليدية القائمة على العنف والتهريب، بل باتت تعتمد على تقنيات متقدّمة، وفي مقدّمتها الذكاء الاصطناعي الذي تحوّل من أداة إنتاجية في الاقتصاد الرقمي إلى عنصر تمكيني للأنشطة الإجرامية العابرة للحدود. ويثير هذا التحوّل أسئلة جوهرية حول كفاية الأطر القانونية القائمة، وجدوى الوسائل الأمنية التقليدية في مواجهة أنماط الجريمة المستحدثة، مما يستوجب معالجة علمية تجمع بين التحليل التقني والرؤية القانونية المتخصّصة.
الذكاء الاصطناعي في الجريمة المنظمة
أحدث الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية في البنية التشغيلية للجريمة المنظمة، إذ انتقلت هذه الأخيرة من النمط الهرمي القائم على الأوامر البشرية المباشرة إلى منظومات رقمية شبه مستقلة، توظّف الخوارزميات في التخطيط والتنفيذ وإدارة الموارد الإجرامية.
تستخدم الشبكات الإجرامية الأنظمة الذكية في تحليل البيانات الضخمة لتحديد الثغرات في الأسواق والمؤسسات المالية، والتنبؤ بأنماط الإنفاق والتحويلات، بما يتيح لها استغلال نقاط الضعف بفعالية تفوق قدرات التحليل البشري التقليدي.
كما تُستعمل تقنيات التعلّم الآلي والتوليد الاصطناعي في إنتاج محتوى مزيف عالي الدقّة (Deepfake) بغرض التشهير والابتزاز وتزييف الأدلة في النزاعات القضائية والمالية، الأمر الذي يهدّد مصداقية الوسائط الرقمية ويقوّض الثقة بالمحتوى الإلكتروني.
إلى جانب ذلك، أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي جزءاً محورياً في الهجمات الإلكترونية المعقّدة، من خلال أتمتة عمليات الاختراق وإطلاق برمجيات الفدية القادرة على الانتشار الذاتي والتكيّف مع بيئات الحماية المختلفة. كما أتاح التفاعل بين الذكاء الاصطناعي وتقنيات البلوكشين مسارات جديدة لغسل الأموال عبر خوارزميات تحويل وتجزئة متقدّمة وخدمات المزج (Mixers) التي تُخفي الأثر المالي داخل الشبكات المشفّرة.
وفي فضاء الإنترنت المظلم، أسهم إدماج الأنظمة الذكية في رفع كفاءة إدارة الأسواق غير المشروعة، حيث يمكن للمنصّات الإجرامية تنظيم العرض والطلب وإدارة المعاملات الرقمية بأسلوب آلي يقلّل الحاجة إلى التدخّل البشري المباشر.
الأبعاد التقنية والأخلاقية
إن التفاعل بين الذكاء الاصطناعي والتقنيات المساندة له، كالتشفير المتقدّم وسلاسل الكتل وربما الحوسبة الكمية المستقبلية، يخلق بيئة رقمية تتّسم بتعقيد بالغ في تتبّع الأنشطة الإجرامية. فكلّ طبقة من هذه التقنيات تضيف مستوى إضافياً من الإخفاء، مما يجعل الوصول إلى الأدلة الرقمية عملية معقّدة تتطلّب مهارات تقنية متخصّصة.
وتبلغ الخطورة ذروتها حين تُستخدم هذه الأدوات في أنشطة تمسّ الكيان الإنساني مباشرة، مثل استغلال الأطفال أو إنتاج مواد إباحية رقمية توليدية تُنشر عبر شبكات مشفّرة وهذا يثير تحديات أخلاقية وقانونية عميقة تتعلق بحدود المسؤولية وطبيعة الإثبات وآليات الملاحقة في الفضاء السيبراني.

قصور أدوات المواجهة
تُظهر التحوّلات الرقمية فجوة واضحة بين قدرات الجريمة المنظمة وإمكانات أجهزة إنفاذ القانون. فوسائل التحري التقليدية، كالمراقبة الميدانية أو التتبّع المالي المباشر، لم تعد كافية لملاحقة الأنشطة الرقمية المعقّدة التي تستند إلى خوارزميات التعلّم الذاتي وسلاسل الكتل المشفّرة.
كما أن النماذج التقليدية للتحقيق، التي تفصل بين التخصّصات القانونية والتقنية، لم تعد ملائمة لواقع تتداخل فيه التكنولوجيا بالقانون. ومن ثمّ تبرز الحاجة إلى وحدات متخصّصة بينية تجمع بين الخبرة القانونية والتحليل البرمجي وخبرات الأمن السيبراني لفهم الأنماط الرقمية المتحوّلة بسرعة.
الاستجابة القانونية والحوكمية
تتطلّب المرحلة الراهنة إعادة صياغة العلاقة بين القانون والتقنية على أسس تكاملية، بحيث يصبح الذكاء الاصطناعي نفسه جزءاً من أدوات مكافحة الجريمة، لا مجرد أداة تُستغل في ارتكابها. وتتحقق هذه الرؤية من خلال خطوات متكاملة تشمل:
• تحديث التشريعات لتشمل الجرائم الناشئة عن الأنظمة الذكية وتحدّد المسؤولية في التفاعل بين الإنسان والآلة.
• إنشاء وحدات متخصّصة تمتلك أدوات تحليل رقمية متقدمة لرصد وتتبع الأنشطة الإجرامية.
• تعزيز التعاون الدولي لمواجهة الطبيعة العابرة للحدود للجريمة السيبرانية.
• تأهيل الكوادر القضائية والرقابية من خلال برامج تدريب تقنية متقدمة.
• ضمان الشفافية والتعاون بين مزوّدي الخدمات الرقمية والجهات الرسمية مع الحفاظ على الخصوصية والحقوق المدنية.
إن الذكاء الاصطناعي يجسّد ازدواجية التقنية الحديثة؛ فهو سلاح يمكن أن يُستخدم لتقويض الأمن، لكنه في الوقت ذاته أداة فاعلة لبناء منظومة عدالة أكثر ذكاءً وفاعلية. والمستقبل القانوني المنشود هو الذي ينجح في تحقيق التوازن بين متطلبات الأمن وحماية الحقوق الفردية، مستثمراً في الذكاء الاصطناعي بوصفه قوة للردع والتنظيم لا وسيلة للفوضى والتهديد.
بهذا المعنى، فإن الحوكمة الرشيدة للذكاء الاصطناعي ليست تقييداً للابتكار، بل ضمانة لاستدامته في خدمة الإنسان والمجتمع.
*المستشار القانوني والاجتماعي والخبير في القانون الدولي، والباحث في تقنيات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني.
نبض