مشروع 545: حملة مسمّمة للتحكم بذاكرة الذكاء الاصطناعي

*الدكتور بيار الخوري
يشهد العالم تحوّلاً عميقاً في طريقة إنتاج المعرفة وانتشارها، بحيث تتداخل التكنولوجيا والإعلام لتصنع واقعاً رقمياً جديداً. في خضم هذا المشهد، تظهر مشاريع تستخدم الذكاء الاصطناعي لتوجيه الرأي العام، ما يثير أسئلة خطيرة حول حدود التأثير، ومصير الحقيقة في عصر البيانات الموجهة؟
بحسب ما نشرت صحيفة "واي نت" الإسرائيلية، تموّل الحكومة الإسرائيلية مشروعاً رقمياً واسعاً يُعرف باسم "545"، هدفه التأثير في الرأي العام الأميركي باستخدام الذكاء الاصطناعي ومنصات التواصل. وتشير الوثائق الرسمية إلى تعاقد مع شركة أميركية لإنتاج محتوى موجه الى جيل الشباب، بأسلوب عصري وسريع الانتشار، باستخدام أدوات تحليل رقمية متقدمة قد تمتد لاحقاً لتؤثر في الطريقة التي تتعلم بها النماذج اللغوية الكبرى مثل "تشات جي بي تي". في ظاهر الأمر، تبدو الحملة إعلامية، لكنها تلامس في جوهرها قلب أخطر قضية في عصرنا: "مستقبل المعرفة".
حين تتحول الحملات المنظمة إلى أدوات لإغراق الإنترنت بمحتوى موجَّه، يصبح الخطر الحقيقي ليس في الدعاية نفسها، بل في إعادة تشكيل البيئة التي تتغذى منها النماذج الذكية. هذه النماذج لا تميّز بين الموضوعي والسياسي، بل تتعلم من التكرار والانتشار. ومع تراكم المحتوى المنحاز، تبدأ الحقائق بالتآكل ببطء، ويبدأ الوعي الجمعي بإعادة بناء نفسه على أساس ما تمّ ضخه وليس ما حدث فعلاً. وهكذا يصبح الذكاء الاصطناعي قناة لنقل الانحياز، لا مرآة للواقع. إنها ضربة مباشرة في صميم المعرفة، حيث تفقد المعلومة معناها، ويصبح الشائع أكثر تأثيراً من الصحيح.
لا تكمن الخطورة على "مستقبل المعرفة" في تحيّز نموذج هنا أو هناك، بل في المسار الطويل الذي يسلكه العالم الرقمي حين تُترك الحقيقة في أيدي من يملك القدرة على تشكيلها رقمياً. الإنترنت الذي بُني ليكون فضاءً مفتوحاً للمعرفة يتحول تدريجاً إلى ميدان نفوذ، إذ تتحكم القوى المنظمة بنوع المحتوى المتاح، وبما تعتبره الخوارزميات مصدراً موثوقاً. ومع دخول الذكاء الاصطناعي على الخط، يصبح هذا النفوذ مضاعفاً، لأن النماذج لا تكتفي بقراءة النصوص، بل تُعيد إنتاجها بملايين الصيغ، فتنشر الانحياز بطريقة أنيقة ومقنعة.
حينها يصبح السؤال أكبر من السياسة أو الحملات الإعلامية: من سيملك مفاتيح المعرفة في المستقبل؟ إذا كانت الحقيقة تُعاد صياغتها داخل الخوارزميات، وإذا كان المستخدم يعتمد على إجابات جاهزة لا يرى خلفها مصادرها، فإننا نقترب من زمن تُدار فيه الذاكرة البشرية عبر أكواد لا نعرف من كتبها. سقوط النماذج في هذا الفخ يعني سقوط الثقة بكل ما نقرأ ونسمع ونتعلم. وتلك ليست أزمة تقنية، بل أزمة في معنى الحقيقة ذاته.
إنقاذ مستقبل المعرفة يتطلب شجاعة من الشركات المطورة لتفتح أبوابها للرقابة المستقلة، وتعلن مصادر بياناتها بوضوح، وتبني أنظمة تدقيق تمنع الحملات المنظمة من تسميم الفضاء الرقمي. المطلوب أيضاً وعي مجتمعي جديد، يدرك أن المعرفة ليست خدمة جاهزة تُقدَّم عبر شاشة، بل مسؤولية مستمرة في البحث والتحقق والمقارنة. فالمعرفة التي لا تُراجع تذبل، والذكاء الاصطناعي الذي لا يُراقَب يتحول إلى آلة تكرار عملاقة تخدم الأقوى لا الأصدق.
القصة التي بدأت بحملة إسرائيلية على الإنترنت قد تكون نموذجاً لما ينتظر العالم كله. المعركة المقبلة لن تكون على الأرض ولا في الأسواق، بل على الذاكرة الجماعية نفسها. وإذا لم تُحمَ المعرفة من التوجيه الممنهج، فلن نحتاج إلى أن تُحجب الحقيقة عن الناس، لأنها ببساطة ستختفي من تلقاء نفسها، بعدما يكتبها الذكاء الاصطناعي كما يريد من علّمه.
* عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا، لبنان