لبنان بين طموح التعليم 4.0 وتجارب الخليج الملهمة

* منى صوان
في عالمٍ تتسارع فيه التحوّلات الرقمية والتكنولوجية، لم يعد التعليم مجرّد عملية تلقينٍ للمعلومات، بل أصبح منظومة متكاملة لإعداد الإنسان القادر على التعلّم المستمر، والتفكير النقدي، والإبداع في مواجهة واقعٍ تتبدّل فيه المعارف والمهارات بسرعة غير مسبوقة.
لقد دخل العالم اليوم حقبة الجيل الرابع من التعليم (Education 4.0)، وهو نموذج يستجيب لتحدّيات الثورة الصناعية الرابعة التي جمعت بين الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والبيانات الضخمة، والطباعة الثلاثية الأبعاد.
في هذا النموذج، لم يعد المتعلم مجرّد مستقبِلٍ للمعلومة، بل شريك في إنتاجها، بينما يتحوّل المعلم إلى مصمم تجارب تعلمية يقود طلبته لاكتشاف المعرفة بأنفسهم.
التعليم 4.0: من المعرفة إلى المهارة
تشير تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي واليونسكو إلى أنّ التعليم 4.0 يركّز على تطوير مهارات المستقبل مثل الإبداع، والمرونة، وحل المشكلات المعقّدة، والتعاون، والتفكير التصميمي، إلى جانب الاستخدام الواعي للتكنولوجيا.
ويعتمد هذا الجيل على بيئات تعليمية تفاعلية توظّف أدوات رقمية متنوعة - من المحاكاة الافتراضية إلى تحليلات البيانات التعليمية - من أجل تخصيص عملية التعلم بحسب قدرات المتعلّمين واهتماماتهم.
لم يعد السؤال "ماذا نعلّم؟ " بل "كيف نُعلّم ولماذا؟"، إذ أصبحت المهارة أهم من المعلومة، والقدرة على التعلّم الذاتي أهم من الحفظ والتلقين.
تجارب عالمية وعربية ملهمة
حقّقت دول مثل فنلندا وسنغافورة تقدّماً كبيراً في تطبيق التعليم 4.0 عبر مناهج قائمة على الكفاءات، واعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي في التقييم والتعليم الشخصي.
أما في العالم العربي، فقد برز بعض النماذج الرائدة التي تستحق الإضاءة عليها:
• الإمارات العربية المتحدة: أطلقت منذ عام 2012 استراتيجية التعليم الذكي، وتُعد من أوائل الدول التي دمجت الذكاء الاصطناعي في المناهج التعليمية والتدريب المهني. كما أطلقت منصة "مدرسة" التي توفر آلاف الدروس الرقمية المجانية باللغة العربية، وأنشأت "جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي" كأول جامعة متخصّصة في هذا المجال عالمياً.
• المملكة العربية السعودية: ضمن رؤية 2030، تبنّت تحولاً تربوياً واسعاً من خلال مبادرات "مدرستي"، "بوابة المستقبل"، و"منصة عين" التي وفّرت محتوى رقمياً تفاعلياً لملايين الطلاب.
كذلك طوّرت وزارة التعليم سياسات لتكامل الذكاء الاصطناعي والبيانات التعليمية في تحسين جودة التعليم والتعلّم المستمر للمعلمين.
هذه التجارب تؤكد أن التحول نحو التعليم 4.0 ليس حلماً بعيداً، بل خيار استراتيجي يمضي فيه بعض الدول العربية بخطى واثقة.
لبنان بين الواقع والطموح
في المقابل، لا يزال لبنان يعيش مرحلة انتقالية. فقد كشفت تجربة التعليم عن بُعد أثناء جائحة كوفيد-19 عن استعداد فئات من المعلمين والطلاب للتعلّم الرقمي، لكنها في الوقت نفسه عرّت هشاشة البنية التحتية التكنولوجية، وضعف التجهيزات في المدارس الرسمية، وتفاوت فرص التواصل بين المناطق.
تشير تقارير اليونسكو والبنك الدولي إلى أن التعليم في لبنان يعاني من تحديات متشابكة، أهمها:
• نقص التمويل والبنية الرقمية في المدارس الرسمية؛
• غياب استراتيجية وطنية شاملة للتحول التربوي الرقمي؛
• الحاجة الماسّة لتدريب المعلمين على الكفاءات التكنولوجية وتحليل البيانات التعليمية.
ورغم ذلك، يمتلك لبنان مقومات بشرية فريدة: معلمون مبدعون، طلاب متعطشون للمعرفة، وجامعات نشطة رقمياً.
إذا ما تمّ توجيه هذه الطاقات ضمن رؤية وطنية موحدة للتعليم الرقمي، فيمكن للبنان أن يستفيد من التجارب الخليجية الرائدة ويصوغ نموذجاً لبنانياً مرناً للتعليم 4.0، نموذجاً يدمج بين الإبداع والهوية الثقافية والانفتاح التكنولوجي.
التعليم بين الإنسان والآلة
لا ينبغي أن يُفهم التعليم 4.0 بصفته استبدالاً للمعلم بالتكنولوجيا، بل توسيعاً لدوره الإنساني.
فالذكاء الاصطناعي قادر على تحليل بيانات المتعلّمين وتخصيص الدروس، لكنه لا يستطيع أن يزرع فيهم الشغف أو القيم.
الغاية من التحول الرقمي ليست "رقمنة التعليم" بل إعادة إنسَنته ليصبح فضاءً للتفكير، والإبداع، والمسؤولية.
التعليم 5.0: رؤية مستقبلية لا واقع حالي
بدأ بعض الدراسات الأكاديمية يتحدث عن التعليم 5.0، الذي يقوم على دمج التكنولوجيا بالذكاء العاطفي والإنساني، من أجل تعليمٍ أكثر توازناً بين المعرفة والقيم.
لكن هذا المفهوم لا يزال في طور الاستشراف البحثي، ولم يتحول بعد إلى سياسات تعليمية معتمدة على نطاق واسع.
لذلك من الأدق النظر إليه رؤية مستقبلية يمكن أن توجه تطوير التعليم في العقود القادمة، لا مرحلة قائمة بالفعل.
يملك لبنان اليوم فكراً تربوياً طموحاً وطاقة شبابية قادرة، لكن التحول نحو التعليم 4.0 يتطلّب إرادة سياسية واستثماراً جاداً في البنية الرقمية.
الدروس المستفادة من التجارب الخليجية والعالمية واضحة: النجاح لا يأتي من التكنولوجيا وحدها، بل من الإنسان الذي يحسن استخدامها.
التعليم 4.0 هو البوابة التي يمكن أن تعيد للبنان دوره الريادي في الفكر والمعرفة، إذا ما جعلنا المدرسة مساحةً للإبداع لا للتلقين، وللتجريب لا للحفظ، وللحياة لا للامتحان.
*الدكتورة منى صوان، الخبيرة في القيادة التربوية ومؤسِّسة Empowering Educators Academy، التي تعمل على تمكين المعلمين من دمج التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في التعليم لبناء بيئات تعلم حديثة وتفاعلية.