الذكاء الاصطناعي في نيويورك... ولبنان غائب!

*جبران الخوري
اختتمت الاثنين أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة التي امتدت لأسبوع كامل تحت عنوان "معاً نحقق الأفضل: ثمانون عاماً وأكثر من أجل السلام والتنمية وحقوق الإنسان". تداخلت القضايا الملحّة من وقف الحرب الإسرائيلية على غزة وما تخلّفه من مآسٍ إنسانية، إلى حرب روسيا واوكرانيا، الى أزمات المناخ واللاجئين. غير أن الخميس من الاسبوع الماضي خُصص للذكاء الاصطناعي باعتباره التحدي الأكثر إلحاحاً أمام البشرية، بعدما بدا واضحاً في نقاشات الجمعية العامة ومجلس الأمن أنه لم يعد مجرد أداة تقنية للابتكار، بل تحول إلى قضية سياسية وأمنية وإنسانية بأبعاد عالمية.
الجمعية العامة أطلقت مبادرة "الحوار العالمي لحوكمة الذكاء الاصطناعي"، إلى جانب لجنة علمية مستقلة تضم خبراء من الشمال والجنوب، بهدف وضع إطار دولي للتنظيم. خلال الأشهر القليلة المقبلة سوف تتحدد المهمات الاساسية للحوار، وسيكون الاجتماع الأول في جنيف بين 7 و10 تموز 2026، بالتزامن مع "قمة الذكاء الاصطناعي من أجل الخير" التي ينظمها الاتحاد الدولي للاتصالات سنوياً منذ عام 2017.
إذن، في اجتماعات الجمعية العامة برز الذكاء الاصطناعي قضية عالمية أساسية، بحيث تفاوتت المواقف بين الولايات المتحدة التي دعت لإطار مرن يحافظ على دينامية شركاتها، والصين التي طالبت بمعايير واضحة تحمي سيادتها الرقمية، والاتحاد الأوروبي الذي شدد على حماية الخصوصية وحقوق الإنسان، وروسيا التي ركزت على البعد العسكري ورفضت احتكار الغرب للتكنولوجيا، والدول الأخرى طالبت بالاسراع في وضع التنظيمات العالمية للذكاء الاصطناعي، ومعالجة التحديات مثل الفجوة الرقمية، وعدم المساواة، والمخاوف الأخلاقية المتعلقة بالخصوصية، وحقوق الإنسان، والأمن السيبراني. في المقابل، غاب لبنان عن هذه النقاشات رغم طموحه المعلن في الذكاء الاصطناعي، ما يجعل من الضروري أن يحدد موقفه بما يتماشى مع تطلعاته ودوره التاريخي في المحافل الدولية.
العالم العربي لم يكن غائباً. المغرب أطلق مركزاً إقليمياً للرقمنة والتنمية المستدامة، والسعودية عرضت رؤيتها عبر هيئة البيانات والذكاء الاصطناعي، مؤكدة دورها في صوغ قواعد الحوكمة الرقمية.
لكن لبنان، على عكس هذه التوجهات الإقليمية، لم يسجل حضوراً يوازي طموحاته المعلنة. فضمن تشكيلة الحكومة الحالية استحدثت وزارة دولة للذكاء الاصطناعي، ووافق مجلس الوزراء أخيراً على مشروع قانون لإنشاء وزارة أصيلة متخصصة للذكاء الاصطناعي، في خطوة نادرة على المستوى الدولي. للمفارقة، وزير الدولة للذكاء الاصطناعي كمال شحادة أعلن الخميس الماضي خلال "ورشة عمل" محلية في بيروت: "أن تحويل لبنان إلى جمهورية رقمية ليس شعاراً بل خطة عملية تهدف إلى بناء إدارة حديثة متصلة بالاقتصاد العالمي وتقديم خدمات نوعية للمواطنين"، لكن غاب عن الوزير شحادة ذكر الحدث العالمي في الأمم المتحدة، ولم يتطرق لا من قريب ولا من بعيد، ولو بإشارة مقتضبة، الى ما يجري في نيويورك في اليوم نفسه من مناقشات عالمية حول الذكاء الاصطناعي وما هو موقف لبنان من ذلك؟
شكّل الغياب اللبناني عن النقاشات في الأمم المتحدة علامة استفهام كبيرة. فكيف يمكن لدولة تتبنى رسمياً وزارة للذكاء الاصطناعي ألا تكون جزءاً من أوسع حوار عالمي حول مستقبل الذكاء الاصطناعي؟ غياب الصوت اللبناني في نيويورك يوحي أن الهوّة لا تزال قائمة بين الخطاب الداخلي الطموح والقدرة على صوغ حضور فاعل على الساحة الدولية، حيث تُرسم المعايير والقواعد التي ستحدد مستقبل البشرية بالاعتماد المنظّم على هذه التكنولوجيا.
الأمم المتحدة أرادت أن تضع الأساس لمرحلة جديدة من التعاون الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي. النجاح في هذه المهمة سيعتمد على انخراط الدول النامية جنباً إلى جنب مع القوى الكبرى، على أن يتحول الخطاب الطموح إلى أفعال حقيقية.
اما لبنان، الذي يرفع شعار "الجمهورية الرقمية"، فعليه أن يترجم هذا الطموح إلى أفعال حقيقية في الداخل، ودور ملموس على المستوى الدولي. لبنان الذي كان في الأربعينات من القرن الماضي حاضراً في قلب الأمم المتحدة عبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يغيب اليوم كلياً عن نقاش الذكاء الاصطناعي. قبل ثمانين عاماً ساهم شارل مالك في صياغة شرعة حقوق الإنسان، فاتحاً مرحلة تاريخية للبشرية.
واليوم، مع دخول العالم مرحلة الذكاء الاصطناعي وما تحمله من تحولات كبرى، غاب لبنان عن النقاش العالمي، في مفارقة لافتة، خصوصاً أن "القوات اللبنانية" التي تستحضر إرث شارل مالك وتفخر بدوره التاريخي تشارك في الحكومة الحالية عبر عدد من الوزراء بينهم وزيرا الخارجية والذكاء الاصطناعي، وهذا ما يضاعف المسؤولية لغياب لبنان، وضرورة الالتزام الجاد للعمل المنتج، لا الاكتفاء بالشعارات، لأن مستقبل الأوطان لا يُصنع بالتفرّج على طاولات العالم بل بالمشاركة الفاعلة في رسم مساره.
*خبير في إدارة الاتصالات