الذكاء الاصطناعي وسوق العمل في العالم العربي

يتحول الذكاء الاصطناعي، من الناحية الاستراتجية، الى أداة لإعادة صياغة العقود الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة العربية.
الذكاء الاصطناعي وسوق العمل في العالم العربي
صورة تعبيرية.
Smaller Bigger

*جبران الخوري 

لا شك في أن الذكاء الاصطناعي أصبح القوة الدافعة وراء إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي، والحافز الرئيسي للدول على إعادة تعريف أسواقها وتثبيت مواقعها في سلاسل القيمة العالمية.

انطلاقاً من هذا الواقع، يستطيع العالم العربي إتخاذ إجراءات فعّالة في مواجهة هذا التحول بهدف جعل الذكاء الاصطناعي رافعة للنهوض ومُوَّلد لفرص العمل. 

حاليًا، تَطرح تجربة دول الخليج النموذج الأكثر تقدّمًا في المنطقة. الإمارات والسعودية وقطر وضعت استراتيجيات وطنية طموحة لا تتميز في حجم الإستثمارات فقط، بل بوضوح العلاقة بين التكنولوجيا وسياسات سوق العمل، وتُدار عملية التحوّل كخيار اقتصادي طويل المدى يهدف إلى توليد وظائف نوعية في مختلف المجالات. الا انه تبقى هناك تحديات فعلية، أبرزها القدرة على بناء كتلة هامة من الكفاءات الوطنية، والتقليل من الاعتماد البنيوي على الخبرات الأجنبية.

في المقابل، تبدو الصورة في المشرق العربي أكثر ضبابية. فلبنان، رغم امتلاكه طاقات بشرية رائدة في مجالات البرمجة والعلوم الرقمية، لم ينجح بعد في بلورة استراتيجية وطنية تجعل من الذكاء الاصطناعي أولوية تنموية. الأردن حقق بعض التقدّم عبر برامج تدريب شبابية، بينما أطلق العراق تجربة لافتة بتأسيس كلية للذكاء الاصطناعي ومركز للبيانات. أما سوريا، فلا تزال تواجه تحديات تجعل الاستثمار في هذا المجال محدودًا.

كذلك في شمال إفريقيا يبرز مشهدا مشابها. مصر وتونس تستندان إلى تقاليد راسخة في التعليم الجامعي يمكن البناء عليها. المغرب اختار ربط استراتيجيته التكنولوجية بالواقع الافتراضي القادر على جذب الشباب وتوليد فرص سريعة النمو. الجزائر أسست صندوقًا استثماريًا لدعم الشركات الناشئة في الذكاء الاصطناعي.

 

 

صورة تعبيرية مولّدة بالذكاء الاصطناعي
صورة تعبيرية مولّدة بالذكاء الاصطناعي

 

لكن جميع هذه المبادرات في دول المشرق العربي وشمال أفريقيا تبقى جزئية ومحدودة الأثر ما لم تُترجم إلى استراتيجيات وطنية متكاملة مرتبطة بأسواق العمل.

وعند مقارنة هذه المسارات بما يحدث في الاقتصادات الكبرى، تظهر الفجوة واضحة. إذ تعتمد الدول الكبرى على صناعة التكنولوجيا وتصديرها كسلعة استراتيجية، ما يجعل المنافسة غير متكافئة، ويضع العالم العربي أمام معضلة إمّا أن يظل مستهلكًا للتكنولوجيا، أو أن يضع أسسًا واقعية للانتقال إلى موقع المساهم في صياغة المستقبل.

قد يكون القلق كبيراً من إمكانية فقدان بعض الوظائف في المنطقة، خصوصًا في ظل نسب بطالة مرتفعة أصلًا وتتجاوز 25% بين الشباب في بعض البلدان، واقتصادات لا تزال تعتمد على قطاعات مهددة بالانكماش، بالرغم من ذلك، الذكاء الاصطناعي قادر، إذا ما تم توظيفه ضمن رؤية استراتيجية، على خلق وظائف جديدة في قطاعات غير موجودة حاليا، وعلى إعادة إحياء الصناعات التقليدية بطرائق مبتكرة.

الطريق إلى ذلك يبدأ من إصلاح جذري في التعليم، بحيث يُعاد توجيه المناهج المهنية والجامعية نحو اختصاصات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، مع إدماج الفكر النقدي والأبعاد الأخلاقية منذ المراحل المدرسية الأولى. ويوازي ذلك جهد منظم للاستفادة من الطاقات العربية المهاجرة، عبر منصات تتيح لهذه الكفاءات نقل خبراتها من الخارج إلى الداخل من دون أن تضطر لمغادرة مواقعها. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح رافعة لتجديد القطاعات التقليدية في الزراعة والصناعة والخدمات، حيث يمكن دمج التحليلات الذكية والروبوتات وأنظمة التوصية لتوليد وظائف جديدة.

لكن الأهم يبقى في خلق إطار عربي مشترك ينسّق الجهود بدل أن يبعثرها، من خلال قواعد بيانات موحّدة للمهارات، ومراكز بحثية إقليمية، وشراكات عربية-عربية Partnerships قادرة على تحويل التنافس المحلي الى تكامل إقليمي فعلي. علمًا، ان هنالك شراكات بين مشّغلين ومؤسسات عربية قائمة في قطاع الاتصالات، ولو بشكل محدود، وبوادر شراكات عربية واعدة في قطاعي الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي. 
تُعد الشراكات في هذه المجالات شرطًا أساسيًا لتسريع الابتكار وخفض التكاليف وخلق فرص عمل، عبر تقاسم الخبرات والمخاطر وفتح أسواق أوسع أمام الشركات العربية. وهي تمنح المنطقة فرصة لبناء قدرات محلية قوية، وتفادي التكرار في الاستثمارات عبر منصات إقليمية موحّدة، ما يجعلها مدخلًا عمليًا لتحويل الطاقات العربية إلى قوة تنافسية في الاقتصاد الرقمي العالمي.

هذا الإطار العربي المشترك يجب أن يتجاوز المنطق التقليدي الذي يتطلع إلى دول الخليج كمصدر للتمويل، ويجب أن يتوجه نحو رؤية تُجسٓد العالم العربي سوقًا واحدةً متكاملةً. فالمنطقة العربية تضم في مختلف زواياها ودولها اما طاقات بشرية متخصصة، أو أسواقًا استهلاكية واسعة، أو كلفة تصنيعية منخفضة، إضافة إلى موارد طبيعية وزراعية كبيرة وقدرات بحثية متقدمة ومواقع جغرافية فائقة الأهمية. تكامل هذه العناصر يمنح الاقتصادات العربية فرصة لبناء قاعدة تكنولوجية منافسة، قائمة على الاستثمار العربي–العربي المنتج، لا على إعادة توزيع رأس المال.

من خلال هذه المقاربة يتحول الذكاء الاصطناعي، من الناحية الاستراتجية، الى أداة لإعادة صياغة العقود الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة.



 *خبير في إدارة الاتصالات

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟