الذكاء الاصطناعي وديناميكيات الاقتصاد الحديث

*جلال قناص
*شربل باسيل
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد مفهوم مستقبلي، بل أصبح حقيقة راسخة تسيطر على النقاشات الاقتصادية والاستثمارية حول العالم. ومع تزايد الاستثمارات الهائلة في هذا القطاع، يطرح سؤال جوهري: هل نحن أمام فقاعة جديدة تشبه فقاعة "الدوت كوم"، أم أنها ثورة فكرية حقيقية ستغير وجه الاقتصاد العالمي وتساهم في زيادة الإنتاجية والتنمية؟
يشير الخبراء إلى أن النقاش بين "الفقاعة" و"الثورة" ليس جديداً، فقد شهد التاريخ تحولات تكنولوجية مماثلة. فعلى سبيل المثال، استغرق محرك البخار 61 عاماً ليحقق نمواً في الإنتاجية، واستغرق الأمر 15 عاماً لكي يبدأ الكمبيوتر الشخصي والإنترنت بتحقيق تأثير ملموس على الاقتصاد. ومن هذا المنطلق، يرى المتفائلون أن الذكاء الاصطناعي يمتلك القدرة على تحقيق التأثير نفسه ولكن في فترة زمنية أقصر، ربما في غضون سبع سنوات فقط، مما يجعله أكثر تحولاً من الإنترنت والكمبيوتر الشخصي.
الجانب الأول: الذكاء الاصطناعي كقوة إنتاجية وثورة
يؤكد مؤيدو فكرة الثورة أن الذكاء الاصطناعي يعتبر "تكنولوجيا متعددة الأغراض" (General Purpose Technology)، وهي تقنية تؤثر بشكل عميق على مختلف القطاعات الاقتصادية. ومن أهم أوجه تأثيره الإيجابي:
* زيادة الإنتاجية والكفاءة: وفقاً لمفهوم الاقتصادي جوزف شومبيتر، ممكن أن نعتبر الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا جديدة تتيح منتجات وأساليب إنتاج وأشكال تنظيمية جديدة فتعزّز الكفاءة على مستوى الشركات، ومع انتشارها ترفع الإنتاجية على مستوى الاقتصاد الكلي. على سبيل المثال، تساهم أدوات الذكاء الاصطناعي في أتمتة المهمات الروتينية والمتكررة، مما يحرر الموظفين للتركيز على المهمات الأكثر تعقيداً وإبداعاً. يمكن للشركات استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل كميات ضخمة من البيانات بسرعة ودقة فائقتين، مما يساعدها على تحسين عمليات الإنتاج، وتخطيط الموارد، وتقليل الإهدار، وتحقيق وفورات كبيرة ..
* خلق فرص عمل جديدة: على رغم المخاوف بشأن إحلال الذكاء الاصطناعي محل الوظائف، يشير العديد من الدراسات إلى أنه سيخلق فرص عمل جديدة في مجالات مثل علوم البيانات، وتطوير التقنيات الرقمية، وإدارة أنظمة الذكاء الاصطناعي.
* تحفيز الابتكار: يوفر الذكاء الاصطناعي منصة للابتكار في قطاعات متنوعة مثل الرعاية الصحية، والتمويل، والزراعة، والنقل. فمن التشخيص الطبي الدقيق إلى المركبات الذاتية القيادة، يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقاً جديدة للتقدم التكنولوجي والتنمية المستدامة.
ومع ذلك، إن المكاسب لن تُوزع بالتساوي بين الدول. الدول التي تمتلك بنية تحتية رقمية متطورة، ومهارات، وبيانات، وإمكان الوصول إلى الحوسبة، ستتبنى الذكاء الاصطناعي بشكل أسرع، وستحقق عوائد مبكرة، وستشهد زيادة في الناتج المحلي الإجمالي للفرد. أما الدول الأخرى فستواجه أكلافاً أعلى وتعلّماً أبطأ، ما يؤدي إلى تباعد في مستويات الدخل في الأجلين القصير والمتوسط. وقد تضيق هذه الفجوات في الأجل البعيد مع انتشار القدرات.
الجانب الثاني: هل هو مجرد فقاعة؟
على الجانب الآخر، يرى المتشككون أن ما نشهده هو حالة من التضخم المالي المبالغ فيه، وأن قيمة الشركات العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي لا تتوافق مع الأرباح الحقيقية التي تحققها. ويستند هذا الرأي إلى نقاط عدة:
* استثمارات ضخمة وعوائد محدودة: على رغم أن شركات التكنولوجيا العملاقة تنفق مليارات الدولارات على مراكز البيانات والشرائح وتطوير النماذج، إلا أن العوائد المالية المباشرة لا تزال محدودة. ويشير بعض التقارير إلى أن 95% من مشاريع الذكاء الاصطناعي في الشركات فشلت حتى الآن في تحقيق أرباح ملموسة. بالإضافة إلى ذلك، إذا كان الطلب على المنتجات المدعومة بالذكاء الاصطناعي محدوداً، فسوف تتأخر إيرادات الشركات بينما تتراكم الأكلاف. باختصار، عندما يتجاوز العرض الطلب، يمكن أن تتحول تقنية قوية كالذكاء الاصطناعي إلى فقاعة مالية.
* فجوة التعلم والتطبيق: إن التحدي الحقيقي لا يكمن في تطوير التكنولوجيا نفسها، بل في قدرة الشركات والمؤسسات على دمجها بفاعلية في بيئات العمل التقليدية. إذ أن ضعف التكامل مع الأنظمة القديمة وغياب التدريب الكافي للموظفين يمنعان تحقيق الاستفادة القصوى من هذه الأدوات.
* الأكلاف الباهظة: إن تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتشغيلها يتطلبان بنية تحتية هائلة ومكلفة للغاية، فضلاً عن الحاجة إلى مهندسين متخصصين وكميات هائلة من الطاقة، مما يجعلها استثمارات صعبة التحقيق بالنسبةالى لكثير من الشركات.
الخلاصة
النقاش حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي فقاعة أم ثورة هو نقاش معقد، ولكنه ضروري. فبينما يرى البعض أن القيمة السوقية المبالغ فيها لشركات الذكاء الاصطناعي تشير إلى فقاعة على وشك الانفجار، يؤمن آخرون بأن هذه التكنولوجيا تمتلك إمكانات هائلة لتعزيز الإنتاجية والنمو الاقتصادي على المدى الطويل.
الخلاصة التي يمكن استنتاجها من التحليل أن الذكاء الاصطناعي يحمل في طياته سمات كليهما. قد تكون هناك فقاعة استثمارية في الوقت الحالي، لكن هذا لا ينفي أن التقنية نفسها تمثل ثورة حقيقية. إن التحدي الآن يكمن في كيفية تحويل الاستثمارات الهائلة إلى فوائد إنتاجية ملموسة. وكما حدث مع الإنترنت، ستنجو الشركات التي تتمكن من إيجاد نماذج عمل مستدامة وتطبيق الذكاء الاصطناعي بفاعلية، بينما ستتلاشى الشركات التي تعتمد فقط على الضجيج الإعلامي والمضاربات. إن مستقبل الذكاء الاصطناعي ليس مسألة "هل سيحدث؟" بل "كيف ومتى نحقق إمكاناته الكاملة؟".
*أستاذ الاقتصاد في جامعة قطر
*أستاذ الاقتصاد في جامعة قطر