البيانات: "نفط القرن الحادي والعشرين" بين الاقتصاد والسياسة

في الوقت الذي شكّل النفط لعقود طويلة عصب الاقتصاد العالمي ومصدراً للقوة السياسية، يبرز في القرن الحادي والعشرين موردٌ جديدٌ يتجاوز الحدود المادية: البيانات. فهي لم تعد مجرد أرقام أو مخرجات ثانوية للأنشطة الرقمية، بل تحولت إلى رأسمال استراتيجي يعيد تشكيل الاقتصادات والمجتمعات. هذا ما تؤكده الدكتورة فيولا مخزوم (أستاذة جامعية وباحثة في تكنولوجيا التربية والتعليم، ومديرة المركز الديمقراطي العربي في لبنان ورئيسة تحرير مجلة "مؤشر" للدراسات الاستطلاعية) في مقابلة مع "النهار".
البيانات بين النفط والاقتصاد الرقمي
توضح مخزوم بأن وصف البيانات بـ"نفط القرن الحادي والعشرين" يعود إلى التشبيه الذي أطلقه الخبير البريطاني كلايف همبي عام 2006، حين شبّهها بالنفط الخام الذي لا قيمة له ما لم يُكرّر. وتشير إلى أن المؤسسات الدولية، مثل البرلمان الأوروبي والبنك الدولي، عززت هذا المفهوم في تقاريرها التي اعتبرت البيانات محركاً رئيسياً للاقتصاد الرقمي والابتكار. لكن الفرق الجوهري يبقى في طبيعة المورد؛ فالنفط ناضب ومحدود، أما البيانات فمورد متجدّد، تتضاعف قيمته مع التوسع في جمعه وتحليله وتوظيفه.
من مخرجات ثانوية إلى رأسمال معرفي
تستعرض مخزوم التحول التاريخي للبيانات، من كونها مجرد أرشيف هامشي لتصبح رأسمال على المستوى المعرفي، بإمكانها توجيه القرارات الاقتصادية والسياسات العامة. ومع التطور في قدرات الحوسبة وانخفاض كلفة التخزين، دخلت تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي لتفتح المجال أمام استخدامات غير مسبوقة، تبدأ بتطوير منتجات وخدمات مخصصة إلى تحسين الكفاءة التشغيلية، ثم تمكين الحكومات من تصميم سياسات دقيقة ورصد الظواهر في الوقت الحقيقي. وتشدد على أن هذا التحول لم يكن تقنياً فحسب، بل اقتصادياً واجتماعياً أيضاً.
الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية
ترى مخزوم أن الدور الحاسم في تحويل البيانات من أرقام خام إلى قوة اقتصادية عالمية جاء عبر التكامل بين الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي. فالأولى أزالت قيود التخزين والوصول، والثانية أضفت قيمة تحليلية عميقة، مكّنت من استنباط الأنماط والتوقعات التي تُترجم مباشرة إلى قرارات استراتيجية. وتلفت إلى أن هذا التكامل فتح الباب أمام نماذج أعمال جديدة مثل اقتصاد المنصات والاقتصاد القائم على البيانات، مما جعل البيانات اليوم أصلاً استراتيجياً لا غنى عنه لأي دولة أو مؤسسة.
البعد الجيوسياسي: من الطاقة إلى البيانات
في البعد الجيوسياسي، تشير مخزوم إلى أن التحكم بالبيانات قد يُصبح في المستقبل أهمّ من التحكم بمصادر الطاقة التقليدية؛ فكما كان النفط أداة نفوذ في القرن العشرين، أصبحت البيانات اليوم البنية التحتية للقرارات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية. وتوضح بأن شركات التكنولوجيا العملاقة، مثل "غوغل" و"أمازون" و"Tencent"، تملك كميات بيانات تفوق ما لدى كثير من الحكومات، وهو ما يمنحها نفوذاً يتجاوز الحدود الوطنية. وتضيف أن "سيادة البيانات" تطرح اليوم تحديات أخلاقية وقانونية، وقد تدفع نحو إنشاء أطر تنظيمية أو تحالفات دولية شبيهة بـ"أوبك" لتنظيم هذا المورد الحيوي.
تختتم الدكتورة فيولا مخزوم حديثها إلى "النهار" بالتأكيد على أن البيانات لم تعد مجرّد وقود للاقتصاد الرقمي، بل غدت المحرك الأساسي للتغيير في عصر الثورة الصناعية الرابعة. ومع ازدياد الاعتماد عليها في رسم السياسات وإدارة الأسواق، فإن موقع الدول والشركات في النظام العالمي الجديد سيتحدّد بقدرتها على جمع البيانات وتحليلها وتوظيفها بكفاءة وإبداع.