زمن الخداع الجميل

في كل لحظة، يُعاد تشكيل العالم أمامنا لا بيد الواقع، بل بيد الخوارزميات. ما نراه ونقرأه ونؤمن به يمرّ عبر مصفاةٍ غير مرئيّة تصنعها التقنية وتغذّيها رغباتنا. في هذا الفضاء المتحوّل، لم يعد الزيف خروجاً عن الحقيقة، بل غدا أسلوباً جديداً في تقديمها.
إنه ليس كذبة صريحة، بل نسخة مُقنِعة منها… نسخة أكثر سلاسة، أكثر جاذبية، وربما أكثر قبولاً للعقل المتعب من الشكّ. لقد صارت الأكاذيب تُروى بمهارةٍ جمالية تُخدّر الحاسّة النقدية، وتغدو المعلومة "قصة جميلة" قبل أن تكون واقعاً يمكن اختباره. نحن نستهلك المعنى كما نستهلك الترفيه، بلا جهدٍ ولا مراجعة، فقط بما يرضي انفعالنا اللحظي.
حين تحلّ "قابلية التصديق" محل الحقيقة مقياساً للوعي، ينتهي الأمر بأن تصبح الحقيقة خياراً بين بدائل. وكما قال دانيل جي. بورستين:
"لقد أصبحت الحقائق تُطرد من المشهد لصالح ما يُصدَّق".
نحن لا نُخدع فحسب، بل نشارك في بناء الزيف، نلصقه بصور أنفسنا ونمدحه عندما يلامس شعورنا الداخلي. الزيف لا يفرض نفسه تلقائياً علينا، بل ندعوه إلى عوالمنا الخاصة. في هذا السياق، تصبح الحقيقة معركة مستمرة ضد النسخ الأنيقة التي لا تكلّف نفسها أن تكون حقيقية.
وكلما ازداد اعتمادنا على الوسيط الرقمي في فهم العالم، تراجعت قدرتنا على لمس الواقع مباشرة، حتى غدت التجربة الحقيقية نادرة كاليقين ذاته. إننا نعيش أكثر داخل انعكاساتنا ممّا نعيش داخل وجودنا الفعلي، نطارد الصدق في صورٍ معدّلة ونقيس المشاعر بعدد الإعجابات لا بعمق الإحساس.
إن أخطر ما في الأمر أن يختفي الفرق بين الحكي والمؤكَّد، بين المفترض والمُثبت؛ حين نصبح غير قادرين على التمييز، وتتحوّل الأسئلة الأخلاقية إلى عناوين مهجورة. ليست المعضلة في وجود الزيف ذاته، بل في نجاحه بإقناعنا بأنه طبيعي، وبأننا لا نخسر شيئاً حين نسايره. وحين يصل الإنسان إلى هذه المرحلة، لا تموت الحقيقة بانفجار، بل تنطفئ بهدوءٍ داخل عقولٍ راضيةٍ بما يُقال لها إنّه حقيقي.