* رودي شوشاني 

الفساد في لبنان لم يعد مجرد أزمة عابرة، بل تحوّل إلى نظام مترسّخ يطال مختلف مفاصل الدولة، من المؤسسات الإدارية إلى القطاعات الاقتصادية الحيوية. وقد ساهم في ذلك غياب المحاسبة وضعف الشفافية، إضافة إلى هيمنة المصالح السياسية والطائفية. ومع تراجع ثقة المواطنين بالسلطات، بات البحث عن حلول مبتكرة ضرورة وطنية.

في هذا السياق، تبرز تكنولوجيا البلوك تشين كأداة واعدة يمكن أن تساعد في فرض الشفافية وتعزيز الثقة، عبر إنشاء أنظمة رقمية غير قابلة للتلاعب، تُستخدم في تتبع الأموال، إدارة المناقصات، وحتى تنظيم الانتخابات.

ما هي تقنية البلوك تشين ولماذا تُعتبر مختلفة؟

البلوك تشين هو دفتر حسابات رقمي موزّع يُسجَّل فيه كل حدث أو معاملة بشكل دائم وشفاف.

• اللامركزية: لا توجد جهة واحدة تتحكم بالمعلومات، بل تُوزَّع على شبكة من الحواسيب.
• عدم القابلية للتغيير: أي محاولة لتزوير البيانات تُرصد فوراً لأنها تتعارض مع السجلات الأخرى.
• الشفافية الكاملة: كل عملية مسجَّلة يمكن للجميع الاطلاع عليها والتحقق منها.

هذه الخصائص تجعل من البلوك تشين تكنولوجيا مناسبة لمحاربة الفساد الذي يعتمد أساساً على إخفاء المعلومات والتلاعب بالسجلات الرسمية -وخاصة عند استخدام إثبات المعرفة الصفرية-zero-knowledge proof. 

كيف يمكن للبلوك تشين أن يخدم لبنان؟

1. المناقصات العمومية والصفقات الحكومية
الفساد في التلزيمات والمناقصات من أبرز مظاهر الهدر في لبنان. عبر تسجيل كل المناقصات والنتائج على شبكة بلوك تشين، يصبح من المستحيل إخفاء أو تعديل أي عرض. المواطن، الصحافة، والهيئات الرقابية يمكنهم تتبّع العملية بدقة.

2. مراقبة المساعدات الدولية والإنفاق العام
يتلقّى لبنان مساعدات بمليارات الدولارات من جهات مانحة، لكن غياب الشفافية يجعل الكثير منها عرضة للهدر أو السرقة. باستخدام البلوك تشين، يمكن تتبّع كل دولار من لحظة وصوله إلى الخزينة وحتى إنفاقه، بحيث يعرف المانحون والمواطنون وجهة الأموال الحقيقية.

3. السجل العقاري وتثبيت الملكيات
التلاعب في السجلات العقارية مشكلة تاريخية في لبنان. كثير من المواطنين يواجهون نزاعات قانونية بسبب وثائق مزوّرة أو معدلة. إذا تم اعتماد نظام بلوك تشين لتسجيل الملكيات، ستصبح العقود محمية وغير قابلة للتلاعب، ما يضمن حقوق المواطنين.

4. الانتخابات النيابية والبلدية
أحد أبرز الانتقادات التي تطال الانتخابات اللبنانية هو غياب النزاهة والشفافية. عبر أنظمة اقتراع قائمة على البلوك تشين، يمكن ضمان سرية التصويت من جهة، وإمكانية التدقيق في النتائج من جهة أخرى، ما يحدّ من عمليات التزوير والضغط السياسي.

5. مكافحة الفساد الإداري
حتى على مستوى المعاملات البسيطة، مثل تسجيل الشركات أو دفع الضرائب، يمكن للبلوك تشين أن يقلل من الفساد عبر جعل العملية رقمية وشفافة، فلا يحتاج المواطن لدفع "رشوة" لتسريع معاملته.

6. تسجيل السيارات والفحص الميكانيكي
قطاع تسجيل السيارات والفحص الميكانيكي في لبنان يُعتبر من أكثر القطاعات عرضة للشبهات، حيث تتكرر الشكاوى من الرشاوى والسمسرات لتجاوز المعايير أو تسهيل معاملات غير قانونية.

اعتماد نظام بلوك تشين لتسجيل السيارات والفحوص الدورية سيجعل كل عملية شراء، بيع، أو فحص ميكانيكي محفوظة في سجل رقمي غير قابل للتلاعب. بذلك، يصبح من المستحيل تزوير نتائج الفحص أو التلاعب بأوراق الملكية، ما يحمي المستهلك، ويعزز السلامة العامة، ويقلّص من الفساد الإداري في هذا القطاع الحيوي والمعروف بالفساد.

مصلحة تسجيل السيارات والآليات - الدكوانة (مواقع)

التحديات والعقبات أمام التطبيق

رغم الإمكانات الكبيرة، يواجه اعتماد البلوك تشين في لبنان عقبات عدّة:

1. المقاومة السياسية: الطبقة الحاكمة التي تستفيد من الفساد لن تكون راغبة في كشف عملياتها للعلن.
2. ضعف البنية التحتية الرقمية: يحتاج لبنان إلى تحسين خدمات الإنترنت والأمن السيبراني بشكل جذري.
3. الإطار القانوني: القوانين الحالية لا تعترف بالعقود الذكية أو السجلات الرقمية الموزعة.
4. التثقيف والتدريب: يحتاج الموظفون والمواطنون إلى وعي رقمي لاستخدام هذه التكنولوجيا بشكل فعّال.

دروس من تجارب عالمية

• إستونيا: تُعتبر رائدة في الحكومة الرقمية، حيث تستخدم البلوك تشين في حفظ السجلات الصحية والتعليمية والضريبية.
• جورجيا: أدخلت البلوك تشين في السجل العقاري، ما حدّ بشكل كبير من النزاعات حول الملكيات.
• الإمارات: أطلقت استراتيجية شاملة لرقمنة الخدمات الحكومية عبر البلوك تشين بحلول عام 2030.
هذه النماذج تُظهر أن التقنية ليست حلماً نظرياً، بل واقعاً قابلاً للتنفيذ إذا توفرت الإرادة السياسية.

لبنان يقف اليوم أمام مفترق طرق. فإما أن يبقى أسيراً لدوامة الفساد التي دمّرت اقتصاده وأفقدت مواطنيه الثقة، وإما أن يجرؤ على تبنّي حلول جذرية تعيد الثقة إلى مؤسساته.

تكنولوجيا البلوك تشين لا تمثل حلاً سحرياً، لكنها خطوة ثورية نحو الشفافية والمحاسبة. وإذا ما استُخدمت في مجالات مثل المناقصات العامة، المساعدات الدولية، والسجل العقاري، فقد تكون بداية لمرحلة جديدة تضع لبنان على طريق الإصلاح الحقيقي.

*خبير في التحول الرقمي