الأمان الرقمي: وعودٌ محطمة... هل تتفوق الأرباح على حماية الأطفال؟
تخيّلي أنّك أمٌ تخبر باحثين من شركة "ميتا" بفخر كيف أنك حَميتَ أبناءك من خطر الغرباء في عالم الواقع الافتراضي. وفجأة، يتلاشى هذا الشعور بالأمان مع جملة واحدة من ابنك المراهق: "أمي، لقد قابلتُ غرباء... ولقد تحرّش بالغون بأخي الصغير". كانت لحظة صادمة، كشفت عن هشاشة الثقة بهذا العالم الافتراضيّ، وبالشركة ووعودها.
هذه القصة التي وقعت في ألمانيا ليست مجرد حادثة، بل هي محور قضية أكبر تتكشف في دهاليز "ميتا". فبعد تعهدات علنية بالسلامة، تتهم وثائق مسرّبة من موظفين حاليين وسابقين الشركة بأنها قامت بقمع الأبحاث الداخلية، وتجاهل المخاطر، التي تهدد الأطفال والمراهقين على منصاتها الافتراضية.
ووفقاً لـ"واشنطن بوست"، أمر رئيس في الشركة بحذف تسجيل ادعاءات المراهق، بالإضافة إلى جميع السجلات المكتوبة لتعليقاته. وذكر تقرير داخلي لميتا أن الآباء والمراهقين الألمان يخشون عموماً تحرش الغرباء بهم في الواقع الافتراضي، لكن التقرير لم يتضمن تأكيد المراهق أن شقيقه الأصغر كان مستهدفًا بالفعل.
يُعد هذا التقرير جزءاً من مجموعة كبيرة من الوثائق من داخل ميتا، والتي كُشف عنها مؤخراً للكونغرس من موظفين حاليين وسابقين، يزعمون أن "ميتا" أخفت أبحاثاً ربما كانت ستُلقي الضوء على مخاطر السلامة المحتملة للأطفال والمراهقين على أجهزة الواقع الافتراضي وتطبيقاته الخاصة بالشركة، وهو ادعاء نفته الشركة بشدة.
لم يكن الأمر إهمالاً بسيطاً. بل كان قراراً مدروساً، وفقاً للإدعاءات. إذ تظهر الوثائق أن محامين في الشركة كانوا يوجّهون الباحثين لتجنب جمع أيّ بيانات قد "تورط" الشركة أمام الجهات التنظيمية، خوفاً من المساءلة القانونية. وصلت الأمور إلى حد إعطاء الأوامر بحذف تسجيلات وملاحظات من مقابلات حسّاسة، تماماً كما حدث في قصة الأم الألمانية، ممّا يثير تساؤلات جدية حول الأخلاقيات المهنية للشركة.
ووفقًا للمعلومات التي جرى تسريبها، فإن هذا السلوك كان يهدف إلى تجنب تدقيق لجنة التجارة الفيدرالية الأميركية (FTC)، التي كانت تحقق في امتثال الشركة لقوانين حماية الأطفال عبر الإنترنت. فبدلاً من معالجة المشكلة من جذورها، يبدو أن "ميتا" اختارت إخفاءها. ولكن تقديم الموظفين لهذه الوثائق الى الكونغرس، أعاد إشعال التحقيق وأجبر "ميتا" على مواجهة أفعالها. ورغم نفي الشركة لهذه المزاعم، فإنّ الوقائع تشير إلى أن هناك فجوة كبيرة بين ما تعِد به "ميتا" علناً، وما تقوم به داخلياً لحماية مصالحها.

عجز تقني أم تجاهل؟
حول ذلك، يعلّق الدكتور علاء عبد الرزاق، في حديث الى "النهار"، أنه "من جهة، طبيعة العوالم الافتراضية (بما تحمله من تفاعلات لحظية، ومحتوى ثلاثي الأبعاد، وقدرة على التخفي وراء هويات رقمية) تجعل مراقبتها وضبطها مهمة شبه مستحيلة بالأدوات التقليدية".
ويضيف: "من جهة أخرى، الوثائق المسربة أثبتت أن بعض الشركات كانت على علم بالمخاطر، ومع ذلك آثرت التقليل من شأنها خوفاً من تعطيل خطط النمو أو المساس بجاذبية منتجاتها. وهنا يصبح التجاهل خياراً استراتيجياً، لا مجرد عجز تقني".
أما بالنسبة الى الذكاء الاصطناعي، فيشير إلى أنه "سلاح ذو حدين. فمن ناحية، يضاعف المخاطر عبر أدوات مثل التوليد التلقائي للمحتوى أو الصور المزيفة (Deepfake)، ما يسهل استدراج القاصرين بطرق يصعب كشفها".
ويتابع إن "الخوارزميات القائمة على التوصية قد توصل الأطفال الى محتوى ضار أو غير ملائم بسبب ثغرات في تصميمها. لكن في المقابل، يمكن أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة حماية قوية: أنظمة قادرة على رصد أنماط التحرش، كشف الحسابات المزيفة، تصفية المحادثات والمحتوى في الزمن الحقيقي، بل حتى التنبؤ بالمخاطر قبل وقوعها. الفارق هنا ليس في التقنية في ذاتها، بل في نية الشركات: هل توظف لحماية القاصرين أم لتعظيم الأرباح؟".
فبينما تحلم "ميتا" بتطوير عالمها الافتراضي، تظلّ سلامة مستخدميها واجبة، وبخاصةً الأصغر سناً. فالمستقبل الذي تعد به لن يكون حقيقياً ومستداماً ما لم يُبنَ على أسس من الثقة والأمان، والتي تتطلب مسؤولية لا تقل عن حجم الأرباح التي تسعى إليها. فإن إهمال هذا لا يهدد المستخدمين فحسب، بل يقوّض أهداف الشركة وطموحاتها نفسها.
نبض