30 تشرين الثاني 2022: يوم بدأ المستقبل

الذكاء الاصطناعي، من صفحات البحوث العلمية إلى واجهات هواتفنا، انتقل ليصبح العقل المدبر وراء التطور التكنولوجي. كان الذكاء الاصطناعي نطفة فكرة في مخيلة العلماء، والآن نما ليشكل شجرة تغطي سماء التكنولوجيا. متى كانت آخر مرة قرأت فيها أخباراً دون أن يكون هناك تطور في مجال الذكاء الاصطناعي؟ التنبؤ بمستقبل هذه التكنولوجيا لا يتوقف.
يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي كان أعظم تحول قدمته التكنولوجيا في ربع القرن الأخير. وعلى الرغم من أنه قد يتفاجأ البعض عندما يعلم أن جذور الذكاء الاصطناعي تعود إلى أوائل الخمسينيات، عندما صاغ جون مكارثي مصطلح "الذكاء الاصطناعي". وقد عرّف الذكاء الاصطناعي بأنه "علم وهندسة صنع الآلات الذكية".
من مفهوم إلى واقع
كان هذا هو الأساس لعقود من البحث والابتكار، ليتحول الذكاء الاصطناعي من مفهوم إلى واقع بقوة الحوسبة والخوارزميات والبيانات. وكان أبرز منعطف حقيقي في مساره عند إطلاق شركة "أوبن آي أي" بقيادة سام ألتمان أول نموذج خاص بها "شات جي بي تي"، ما أحدث ثورة في معالجة اللغة الطبيعية.
يؤثر الذكاء الاصطناعي بالفعل على اختياراتنا اليومية، وسرعان ما سيصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا. بدايةً من المساعدين الصوتيين مثل "سيري" وبرامج المحادثة مثل "جيمناي" والسيارات آلية القيادة والأدوات الذكية والتطبيقات المدمجة وصولاً إلى روبوتات الذكاء الاصطناعي المخصصة للغاية. فقد يكون لديك عمّا قريب روبوت ذكاء اصطناعي يمكنه تقليدك وفهمك ومساعدتك في أعمالك.
أمّا على صعيد القطاعات، فاقتحمت أدوات الذكاء الاصطناعي القطاع التعليمي فأصبح بإمكان الطلاب والمعلمين الوصول إلى كم هائل من المعلومات والمعرفة بسهولة وسرعة. إذ يمكن لـ"شات جي بي تي" وغيره من التطبيقات أن يساعد في توليد أسئلة الامتحانات، وتقديم شرح مفصل للمواضيع المعقدة، وحتى مساعدة الطلاب في إعداد البحوث.
وفيما يخص الصحافة وكتابة المحتوى، يستخدم الكتاب والصحافيون والمسوقون برامج الـ"AI" لإنشاء المحتوى من المقالات والقصص والإعلانات. ولكن طبعاً ذلك لم يغنِ عن الحاجة إلى التدخل البشري خصوصاً في هذه المجالات التي تتطلب الإبداع.
وفي البرمجة، برزت سرعة هذه الأدوات في كتابة الأكواد، وتصحيح الأخطاء البرمجية، وحتى شرح مفاهيم البرمجة المعقدة.
وحتّى في الإدارة، تظهر أدوات الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، كعامل مساعد في إعداد جداول الاجتماعات، وتلخيص النقاشات، وتحديد المهام.
وعلى صعيد التسويق وخدمة العملاء، تلجأ العديد من الشركات إلى الذكاء الاصطناعي لتقديم خدمة عملاء أسرع وأكثر كفاءة، حيث يمكن للروبوت الدردشة مع العملاء والإجابة عن استفساراتهم. وطبعاً ذلك يساهم في تخفيف المهام على الموظفين كي يتفرغوا للمهام التي تتطلب تدخلاً بشرياً أكبر وأعقد.
في الترجمة، أصبح بإمكان الأشخاص التواصل مع بعضهم البعض بلغات مختلفة بسهولة أكبر بفضل أدوات الترجمة التي تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي. وفي السياسة لعب دوراً بارزاً خاصةً في الانتخابات والاستحقاقات وفي تكوين الرأي العام، وقد برز ذلك جلياً في الاستحقاق الأميركي الأخير.
باختصار الذكاء الاصطناعي هو أحدث مرادف للابتكار، وهو التقنية التي لم تترك مجالاً إلّا وأصبحت جزءاً منه، أو ستصبح. ففي العامين الماضيين، انتقل الذكاء الاصطناعي من تقنية ناشئة إلى ضرورة يومية. إنه الآن العامل الدافع وراء تقنيات الجيل التالي. وبالتالي، يصبح تبني الذكاء الاصطناعي أمراً لا مفر منه يوماً بعد يوم. تشير دراسة استقصائية أجرتها شركة "IBM" إلى أن 42 في المئة من الشركات على مستوى المؤسسات قد دمجت الذكاء الاصطناعي بالفعل في عملياتها.
"النهار" رائدة في عصر الذكاء الاصطناعي: تحوّل رقمي في عالم الصحافة
برزت صحيفة "النهار" كمؤسسة سبّاقة وجريئة في تبني التكنولوجيا الرائدة بعد أن قدّمت أوّل نموذج لرئيس الجمهورية في العالم يعمل بالذكاء الاصطناعي، وهو مصمّم لأداء المهام الرئاسية في البلاد في بث مباشر قامت خلاله رئيسة مجموعة "النهار" الإعلامية نايلة تويني، بإجراء مقابلة معه وطرحت عليه أسئلة تتعلّق بالوضع الحالي للبلاد.
جرى تدريب نموذج الرئيس من خلال تزويده بمواد صحافية نُشرت لمدّة 90 عاماً على صفحات "النهار" منذ الثلاثينيات من القرن الماضي. ولا يقتصر عمله على تحليل البيانات التاريخية المقدمة له من خلال صفحات "النهار" فحسب، بل يقوم أيضاً بتحليل الأحداث الراهنة وصياغة أجوبة لكافّة المسائل السياسيّة والقانونيّة والحكوميّة. ومن خلال الاستفادة من هذه القاعدة المعرفيّة الواسعة، يتمتّع نموذج الرئيس الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي بفهمٍ لماضي لبنان، فضلاً عن امتلاكه رؤية موضوعية للتحديات التي تواجهها البلاد اليوم.
وتزامناً مع إطلالة النهار بالحلة الجديدة لطبعتي لبنان والإمارات، تم إطلاق أول غرفة أخبار مدعمة بالذكاء الاصطناعي في مبنى الجريدة، مع رصد يومي لأخبار الذكاء الاصطناعي في باب مخصص ضمن قسم "التكنولوجيا" على موقع "النهار"، بالإضافة إلى تقديم مواد تُطلع القرّاء على ما بعد الخبر مثل إحياء ذكرى إطلاق "شات جي بي تي" في ملفٍ خاص سلط الضوء على آثاره وحجم الاستثمارات في هذا المجال.
مع كل هذا الذي يحدث أمام أعيننا بسرعة كبيرة، يتساءل الكثيرون عن شكل الغد. فالمناقشة الجارية حول مستقبل الذكاء الاصطناعي تنحصر في رأيين رئيسيين. يتوقع البعض مستقبلاً مثالياً حيث يجعل الذكاء الاصطناعي حياتنا أسهل. وفي الوقت نفسه، يتوقع آخرون عالماً يتولى فيه الذكاء الاصطناعي زمام الأمور ويحدث دماراً في البشرية. لكن الواقع يكمن في مكان ما بينهما. ومن المؤكد بات ضرورة أن تحدد كل مؤسسة كيفية الاستفادة من هذه التكنولوجيا دون اعتماد مفرط مع الأخذ بالاعتبار التحديات الأخلاقية، مثل انتشار المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة وانتهاك الخصوصية. لكن... أنا لا أريد ذكاءً اصطناعياً يكتب عني ويرسم عني، كي أنصرف للقيام بأعمال روتينية، إنما أريد ذكاء يفعل ذلك عني كي أنصرف أنا إلى الكتابة والرسم! فهل هذا ممكن؟