المدرب بين هيبة الإنجاز وصخب "الميكروفون"
في عالم كرة القدم الحديثة، لم يعد تقييم المدرب يعتمد فقط على أدائه داخل الملعب، بل تجاوز ذلك ليشمل تصريحاته وردود أفعاله خارج خطوط اللعب، فالكلمات أصبحت أداة تأثير محورية قد تفوق أحياناً أهمية الخطط التكتيكية وحتى الإنجازات الشخصية.
مع انتشار الكاميرات وسرعة تداول التصريحات، يمكن لعبارة واحدة أن تترك أثراً عميقاً، تعكس من خلالها عقلية المدرب وسبل تعامله مع الأزمات، وثمة فرق واضح بين مدرب يلجأ إلى تصعيد المشاكل ويواجه الانتقادات بحدة، وآخر يختار امتصاص الضغط بذكاء وهدوء، وهي مهارة تتجاوز الأمور الفنية إلى قدرة أكبر على التفكير الاستراتيجي وإدارة الأزمات، وتالياً أصبح النجاح مرتبطاً بقدرة المدرب السيطرة على المواقف الحرجة وتحويلها إلى فرص لزيادة الثقة من دون التضحية بهوية فريقه.
ويظهر جلياً الفارق في التعامل مع "الميكروفون" كوسيلة مسؤولة لإدارة الأزمات، مقارنة بمن يستخدم التصريحات كأداة للجدل، ولا سيما عندما يواجه المدربون انتقادات الإعلام أو الصحافة المحلية والدولية.
وأثارت تصريحات مدرب المنتخب المصري حسام حسن جدلاً واسعاً في أعقاب مباراة "الفراعنة" مع كاب فيردي ضمن بطولة العين الودية. وجاءت تصريحاته رداً على الانتقادات حول أداء المنتخب، تضمنت دعوة منتقديه إلى التزام الصمت حتى نهاية مشوار الفريق في التصفيات المونديالية، كما أثارت الجدل بوصفه بعض لاعبي المنتخب مثل مصطفى محمد بطريقة تُوحي بالتقليل من شأنهم، حين قال إن المنتخب يضم "محترفَين وربعاً"، في تعبير لاقى استنكاراً واسعاً.

التصريحات امتدت لتتطرق إلى قضية كون حسام حسن مدرباً محلياً، مقارنة بالأجانب الذين يحظون بامتيازات مالية أكبر، والصحافة الدولية التقطت هذه التصريحات وأضافت إليها بعداً جديداً للصراع، ولا سيما بعد ظهور المدرب البرازيلي ميكالي الذي رد بأسلوب مختلف.
استعرض ميكالي إنجازاته، التي تشمل تحقيق أول ميدالية ذهبية أولمبية للبرازيل، وتطوير لاعبين عالميين بارزين مثل غابرييل جيزوس ورافيينا، وقيادته للمنتخب المصري إلى نهائي أمم إفريقيا مع خوض الأشواط الإضافية بعدما لعب بعشرة لاعبين، فضلاً عن تحقيق المركز الرابع في الأولمبياد بعد التغلب على منتخبات قوية مثل إسبانيا، مؤكداً أن الجودة والكفاءة هي المعيار، وليس الجنسية أو الراتب.
المفارقة هنا تكمن في أن مسألة الراتب أو الجنسية لا تمثل معياراً حقيقياً لتقييم الكفاءة، كما حاول حسام حسن أن يوحي بذلك، فالحقيقة أن الأمثلة المتوفرة في العالم العربي تنقض هذا المفهوم تماماً.
ويمكن تقديم المدرب التونسي سامي الطرابلسي مثالاً، إذ يتقاضى راتباً محلياً، من دون أي امتيازات خاصة، وبالرغم من ذلك يقدّم واحدة من أنجح الحقبات وأكثرها استقراراً في تاريخ "نسور قرطاج"، فتعادل مع البرازيل 1-1 ودياً بغياب ثمانية لاعبين نتيجة مشاكل السفر، وقدم أداءً مميزاً إضافة إلى التأهل الى كأسي افريقيا والعال بعد أداء مثير للإعجاب خلال التصفيات، حيث لم تستقبل شباكه أي هدف طوال تلك المرحلة.
يرى المحللون أن القيادة الحقيقية تظهر بقوة في قدرة المدرب على تجنب الانفعال، وتحويل المواجهات الإعلامية غير المجدية إلى قوة إيجابية لمصلحة الفريق، وتصرفات ميكالي وعدد من المدربين العالميين تقدم دروساً واضحة في الاحترافية تحت الضغط؛ إذ يفضلون الرد في الملعب بدلاً من الانشغال بالمؤتمرات الصحفية والمناكفات الكلامية، زهذه العقلية تتجاوز بناء سمعة المدرب إلى تأسيس ثقة مستدامة داخل الفريق، يمنحها احتراماً متبادلاً بين جميع الأطراف.
هنا يتضح الفارق الجوهري بين المدارس التدريبية المختلفة، فالعقلية التي ظهر بها ميكالي ليست مجرد استثناء، بل تشكل منهجاً عالمياً يُظهر كيف يمكن التعامل مع الانتقاد وتحويله إلى مساحة هادئة للحوار.
ويؤكد مدربون عالميون مثل الإيطالي كارلو أنشيلوتي على هذا النهج بعبارات شهيرة مثل "الرد يكون في الملعب".
كرة القدم تبقى دائماً أكثر من مجرد كلمات غاضبة أو ردود استفزازية، فهي مجال يتطلب عقلية قيادية هادئة، قادرة على إحداث الفارق الحقيقي، بين مدرب يحافظ على سمعة منتخب بلاده، وآخر يتورط في جدالات إعلامية بلا جدوى.
نبض