دير مار فوقا - حردين: الأرض والإيمان والحريّة (فيديو)
الباحث باخوس عساف
اذا كانت الحجارة تتكلّم إلى من يصغي إليها، فماذا تقول حجارة دير تاريخي من القرن السادس. وهو على إسم قديس من القرن الأوّل (عهد الرسل)، عنيت به دير مار فوقا أو فوقاس في بلدة حردين، بلدة المقدّم بنيامين ومسقط رأس القديس نعمة الله كساب الحرديني، هذه البلدة التي اقتلعت الوثنية سنة 117 على يد إبنة الملك هدريانوس الروماني التي اعتنقت المسيحية وعُرفت بسيّدة القلعة.
وها أنا اليوم أمسح الغبار قليلًا عن حجارة هذا الدير العظيم، دير مار فوقا الذي شهد الكثير من الأحداث حتى أصبح أم الكنائس والأديار في حردين ومحجة للمسيحيين في جبل لبنان.
وأوّل كنيسة في لبنان شُيّدت على إسم مار فوقا في القرن السادس كانت في حردين كما ذكر المؤرخ بروكوليوس. دير مار فوقا هو من العهد البيزنطي في عهد الإمبراطور يوستينيانوس المعروف بحبه لبناء الكنائس والأديار كما جاء على لسان المؤرخ لامنس اليسوعي. يستظل هذا الدير سنديانة ضخمة من عمره ويتجاوز محيط جزعها الأربعة أمتار.
وفي أواخر القرن السادس حصل زلزال دمّر الدير فبنى الرهبان السريان الكنيسة على إسم مار جرجس الشهيد ما لبثت أن تهدمت مرة ثانية من خلال زلزال آخر. أما الكنيسة الحالية فبنيت في القرن الخامس عشر على يد أربعة رهبان دخلوا حردين بأمر من مقدّم بشري عبد المنعم الثاني اليعقوبي كما جاء على لسان سلفستروس في مخطوطه اليوناني. وباب الكنيسة لا يسمح بالدخول الا بانحناء الرأس.
والكنيسة تتألف من حنيتين: واحدة على إسم مار جرجس الشهيد والأخرى على إسم مار فوقا وفوق كل منها طاقة على جهة الشرق علامة النور لأنه باعتقاد المسيحيين أن الله أبو النور.
أغنى الأديار في جبل لبنان
سكن الدير رهبان ناشطون فتتوا الصخور وجعلوا منها جلالًا نقلوا إليها الاتربة من أمكنة بعيدة بواسطة "القفة" وزرعوها كروماً أعطت محاصيل زراعية وافرة من الدبس والنبيذ ووزعوها على الأديار مجاناً. أصبح الدير مركزاً للمطرانية السريانية وتمتع باستقلالية ذاتية.
بني الدير على أنقاض هيكل وثني ثم شهد احداثاً مهمّة بين اليعاقبة والبيئة المارونية على أثر الهزيمة التي تلقاها اليعاقبة في جبة بشري سنة 1488، إذ دخلت اليعقوبية إلى حردين من خلال المقدّم عبد المنعم الثاني كما ذكرنا، ولم تلق في حردين بيئة حاضنة لها.
وفي سنة 1640 وفي عيد التجلّي في 6 آب/أغسطس أحرق والي طرابلس أحمد الارناؤوط دير مار فوقا وتعرضت حردين للنهب والحريق وهدم الأديار والكنائس على يد عسكر الدولة العثمانية. وكان عدد رهبان الدير يتجاوز الثلاثين راهبًا هرب بعضهم إلى دير مار سركيس وباخوس الذي أصبح مركزاً للبطريركية المارونية لمدّة مئتي سنة انتهت مع البطريرك يوحنا داود. أما القسم الباقي من الرهبان فقتلوا ودفنوا في دير مار فوقا. وأما الأيقونات الثمينة على إسم العذراء ومار جرجس ومار فوقا ويوحنا المعمدان وإفرام السرياني، فقد أنقذها وحملها إلى دير الأم في الاردن الراهب سلفستروس المؤرخ.
وأخيراً، فإن دير مار فوقا يمثل الشعار المثلث للمارونية وهو: الأرض، الإيمان والحريّة.
وإنني أدعو المؤمنين إلى زيارة هذا الدير في حردين، بلدة الثلاثين ديراً وكنيسة. ومهما غرفنا من بحر دير مار فوقا نبقى كعصفور على بيدر.
نبض