"سيّدة الريح"... صلاة البحّارة ونداء التاريخ

عيش لبنان 28-07-2025 | 02:57

"سيّدة الريح"... صلاة البحّارة ونداء التاريخ

منذ العصور البيزنطية المتأخرة، وتحديداً في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي، بنيت هذه الكنيسة الحجرية المنحوتة في الصخر، بقبّتها الواحدة المتواضعة وحنّيتها نصف الدائرية التي واجهت الشرق
"سيّدة الريح"... صلاة البحّارة ونداء التاريخ
سيّدة الريح (النهار)
Smaller Bigger

في أقصى الشاطئ الشمالي لأنفة، تلك القرية الساحلية الهادئة في شمال لبنان، تجدون كنيسة صغيرة قد لا يلحظها العابرون سريعاً، لكنّها تختزن بين جدرانها حكاية عمرها أكثر من ألف عام، وسرًّا لم يتبدّد: هنا، حيث يلتقي صخر البحر بريح المتوسط، كان البحّارة يرفعون صلواتهم ويعلّقون رجاءهم على شفاعة عذراء واحدة، سموها "سيّدة الريح".

 

 

منذ العصور البيزنطية المتأخرة، وتحديداً في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي، بنيت هذه الكنيسة الحجرية المنحوتة في الصخر، بقبّتها الواحدة المتواضعة وحنّيتها نصف الدائرية التي واجهت الشرق. لم تكن كنيسة ضخمة أو مهيبة، لكنها صارت مع الزمن مرفأ للأرواح القلقة، وبيتاً للرجاء عند من لا عاصم لهم من غدر الأمواج.

 

"عيش لبنان": جواز سفر إلى روح بلد يلتقي فيها التاريخ بالأفق
The tourism edition by Annahar
Enter
keywords

 

سيّدة الريح (النهار)
سيّدة الريح (النهار)

 

 

يقول علماء الآثار إنّ الحفريات الأخيرة بين 2011 و2015 كشفت شبكة خفية من القنوات والخزّانات المحفورة في الصخر تحت أرض الكنيسة وحولها. خزّاناتٌ يعود حفرها إلى العصر الحديدي، كانت تجمع مياه الأمطار وتصبّها في البحر لتزويد السفن العائدة بالعذوبة. وكأنّ المكان قد وُلد أصلاً ليكون وسيطاً بين البحر واليابسة، بين الأخطار والأمان.

في الحقبة الصليبية، أعيد بناء الكنيسة على أطلال بيزنطية، وارتفعت فيها لوحات الفسيفساء التي اكتُشف بعضها محفوظاً تحت طبقات الطمي. وفي القرن الثالث عشر، توسعت بإضافات جديدة وخلال العهد العثماني صارت المقبرة المحيطة بها مدفناً للأرثوذكس من أهل البلدة الذين لم يفارقوا كنيسة العذراء حتى في موتهم.

 

 

زرنا الكنيسة التاريخية، والتقينا العضو المؤسس في هيئة تراث أنفه وجوارها جرجي ساسين الذي أخبرنا عن تاريخ الكنيسة ورافقنا في جولة داخلها وخارجها. فما يميّز كنيسة سيّدة الريح ليس فقط طبقاتها الأثرية أو هندستها التي صمدت قروناً، بل روحانيّتها التي تنضح من جدارياتها الفريدة: جدارية للقديس جاورجيوس يطعن التنين على صهوة جواده، ورسوم للرسل الإثني عشر، ثمّ تلك الأيقونة التي تختصر سرّ الكنيسة كلّه: العذراء مريم، واقفة قرب الصحن المائج، ترفع يدها اليمنى لتردّ العاصفة، فيما توسّل بيدها اليسرى ابنها الإلهي كي يبارك الصيادين العائدين بالمراكب.

ليس صدفة أن يكون هذا المكان من أولى كنائس الشرق التي تُكرَّس لمريم العذراء بوصفها منقذة البحّارة، لأنها صارت في وجدانهم الأمّ الحامية من صخب الريح وخطر الغرق. في عام 1959أُدرجت الكنيسة مع ما حولها ضمن قائمة الأبنية الأثرية اللبنانية المصنّفة رسمياً في لبنان، وبدأت رحلة طويلة من الترميم بمبادرة من جامعة البلمند وجامعات بولندية، لتعيد إلى جدرانها ما تيسّر من ألوانها الأصلية وفسيفسائها العتيقة.

واليوم، عندما تقف على عتبة الكنيسة وتنظر إلى المتوسط، لا بدّ من أن تتخيّل أولئك البحّارة، كيف كانوا يقفون في الليل الحالك، يلمسون حجارتها الباردة، ويهمسون بتلك الصلاة البسيطة: "يا سيّدة الريح، احفظينا". تظلّ كنيسة سيّدة الريح شاهدة على محبّة أهل أنفة لمريم العذراء، وعلى إيمان صادق بأنّ أمّاً في السماء  ترعى أبناءها حتى آخر موجة، وآخر نسمة ريح. 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/31/2025 2:00:00 PM
أشقاء الشرع.. مسؤولان بارزان في الحكومة وثالث "معاقَب"
شمال إفريقيا 11/1/2025 8:19:00 AM
من هي الدول المشاركة في حفل افتتاح المتحف المصري الكبير؟ 
سياسة 11/1/2025 3:32:00 PM
برّاك: "آلاف الصواريخ المنتشرة في جنوب لبنان ما زالت تشكل تهديداً حقيقياً لإسرائيل"...
اقتصاد وأعمال 10/31/2025 9:15:00 AM
جدول جديد لأسعار المحروقات