"Le Chef" ... حكاية مطعم وذاكرة مدينة

في قلب حيّ الجمّيزة العتيق في بيروت بين الأزقة الضيّقة يقع مطعم صغير اسمه "Le Chef" . لا لافتة لامعة، ولا ديكور فاخر، لكن ما إن تخطو إلى الداخل، حتى تشعر كأنك دخلت بيتاً دافئاً يشبه ذاكرة اللبنانيين.
تبدأ الحكاية عام 1967عندما قرّر ثلاثة إخوة، أحدهم طاهٍ تعلّم المهنة من عمّه، أن يؤسّسوا مطعماً يجمعهم في مشروع عائلي بسيط. تنقّلوا بين الحمراء والجمّيزة بحثاً عن مكان، حتى استقرّت بهم الحال في هذا الركن من المدينة شارع الجميزة الرئيسي هذا المكان الذي يعتبر أكبر وأطول الشوارع في لبنان. سمي شارع الجميزة بهذا الاسم نسبةً لشجرة جميز ضخمة كانت موجودة في المنطقة، حيث كان الناس يتجمعون تحتها.
اختاروا له اسماً بسيطاً : "Le Chef" لم يكن الاسم استعراضاً، بل هو احترام لمهارة الأخ الذي كان "شيف". كانت الفكرة أن يقدّموا كل شيء: "بيتزا، برغر، بوظة... لكن شيئاً فشيئاً، بدأت رائحة الطبيخ البيتي تطغى على كل شيء".
روّاد المطعم هم من رسموا ملامحه. سيّدة طلبت يوماً "مغربية" فتكرّرت الطلبات، ثم قرروا: الثلاثاء مغربية، الأربعاء كبّة، والخميس يخنة بامية. هكذا تشكلت القائمة، لا من وصفات محفوظة، بل من ذاكرة الزبائن، ومن أطباق الجدّات.
اليوم، يتولى شربل، ابن المؤسّس، وشقيقه بول، مهمة الحفاظ على هذا الإرث. ورثا المطبخ كما ورثا الحكايات، وقرّرا أن يبقيا وفيين لوصفة الوالد، لا في الأكل فحسب، بل في الروح: السرعة، الجودة، والسعر المدروس. "نحن أسرع من المكدونالدز، وأطيب"، يهمس أحد الزبائن وهو يلتهم صحن ملوخية.
مرّ بالمطعم ممثلون، سياسيون، وكتّاب. لكن اللحظة الأبرز كانت في صيف 2020، بعد انفجار مرفأ بيروت. كان الحيّ مدمّراً، والناس مذهولين، حين توقّفت سيّارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام المطعم. خرج شربل من بيته، ملهوفاً ليصافح الرجل، لا لشيء، إلا ليقول: "نحن ما زلنا هنا".
ولاحقاً، تحوّلت صورة ماكرون أمام "Le Chef" إلى رمز. ليس للتضامن الفرنسي فحسب، بل لصمود بيروت، ولمكانٍ بسيط استطاع أن يحتفظ لنفسه بمكانة استثنائية في ذاكرة الناس.
لم نكتفِ بمجرد زيارة المطعم، بل خضنا في أعماقه، إلى حيث تبدأ الحكاية. استقبلنا الشيف بول داخل المطبخ، ذاك القلب النابض بكل نكهة. هناك، تفوح روائح تختلط بالحنين والتراث، برائحة الأهل وذكريات الطفولة. للحظة، تنسى أنك في مطعم، فـ"الطناجر" القديمة تغلي فوق النار كما في بيت الجدّة، والمكان بأكمله يبدو وكأنه يعيدك إلى زمنٍ دافئ... إلى بيت الست، حيث كل شيء يطهى بحب.
وقف الشيف بول أمامي، وبدأ يعلّمني بعضاً من تكتيكات الطبخ الدقيقة، من تقطيع الشمندر بأحجام متساوية، إلى كيفية التعامل مع الطماطم. للوهلة الأولى شعرت بالفرح، رغم أن ما يعلّمني إياه ليس جديداً عليّ، فقد اعتدت القيام بذلك مراراً. لكن طريقة التوجيه، والاهتمام بالتفاصيل، جعلا الأمر أشبه بلحظة دافئة بين جدّ يورّث أسراره لحفيدته... فيها مزيج من الحنان والخبرة والذاكرة.
وهكذا، خرجنا من "Le Chef" ولسان حالنا يقول إن بعض الأماكن ليست مجرد مطاعم، بل محطات وجدانية. في زواياه تختبئ حكايات مدينة، وفي أطباقه نكهة من بيروت التي تأبى الانكسار. لم تكن التجربة مجرّد تذوّق لطعام شهي، بل رحلة في الذاكرة، وهي سرد حيّ لتراث عائليّ كتب بالحبّ والصبر. هنا، في هذا الركن الصغير من الجميزة، ما زال الطبق اللبناني يطهى على نار الهوية، وتقدَّم الوجبة كما يجب أن تكون: بسيطة، أصيلة، وصادقة.