الغرافيتي بين الحرية والهوية: حكايات من شوارع العالم

في مدن العالم، من بيروت إلى برلين، ومن ساو باولو إلى كيب تاون، لم تعد الجدران مجرد كتل صامتة من الإسمنت، بل تحوّلت إلى لوحات حية تنبض بالرسائل والألوان. فن الغرافيتي، الذي وُلد كحركة احتجاجية وصوت للهوامش، أصبح اليوم لغة عالمية عابرة للثقافات والحدود، تعبّر عن قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية بروح إبداعية فريدة.
لم يعد الأمر مجرد غرافيتي سريع على جدار خلفي، بل صار حركة فنية عالمية تثير الجدل وتستقطب الأنظار، حتى إنها دخلت صالات المزادات والمتاحف، وباتت وجهة للسياحة الثقافية في العديد من المدن الكبرى.
نشأ فن الغرافيتي في سبعينيات القرن الماضي في أحياء نيويورك الفقيرة، حيث استخدمه الشباب أداة للتعبير عن هويتهم ورفضهم للتهميش الاجتماعي والاقتصادي. كان الغرافيتي حينها يُنظر إليه كعمل تخريبي يلاحقه القانون، لكنه مع مرور السنوات اكتسب شرعية جديدة. فقد بدأ النقاد يتوقفون أمام جمالياته، وأصبحت الجداريات تزين معارض الفن الكبرى. واليوم، أسماء مثل "بانكسي" أو "جاي آر" تبرهن أن ما بدأ كصرخة على جدار، صار مدرسة بصرية معترفاً بها في العالم كله.
أوروبا: لوحات تحاور التاريخ
في برلين، يظل جدارها الشهير رمزاً لا يمحى، حيث تحولت بقاياه إلى متحف مفتوح لفن الغرافيتي. رسومات الحرية، وجوه الضحايا، والرسائل السياسية تتداخل لتروي قصة مدينة انقسمت ثم توحدت.
أما باريس، فقد صارت شوارعها، خصوصاً حي "بيلفيل"، مساحة تعكس قضايا الهوية والهجرة، حيث تلتقي الألوان مع الشعر السياسي. وفي لندن، وخصوصاً في "شورديتش"، يندمج التراث الصناعي بالابتكار البصري، لتصبح الأزقة معارض يومية مفتوحة، تعرض قضايا مثل العدالة الاجتماعية وتغير المناخ.
أميركا اللاتينية: صرخات بالألوان
تشتهر ساو باولو بجدارياتها العملاقة التي تغطي ناطحات السحاب، حيث يترجم الفنانون المحليون معاناة الفقراء، ويدعون إلى العدالة والوعي البيئي بألوان صاخبة.
أما بوغوتا، العاصمة الكولومبية، فقد اتخذ فن الشارع فيها بعداً علاجياً، إذ تحولت جدرانها إلى دفاتر للذاكرة تسرد قصص الحرب الأهلية وضحاياها. هنا، يجد الزائر أن كل لوحة تحمل وجهاً أو حكاية، وأن اللون صار لغة للسلام بعد عقود من العنف.
الشرق الأوسط: ذاكرة وصمود
في بيروت، التي عاشت الحروب والأزمات، تغدو الجدران سجلاً حيّاً للذاكرة الجمعية. رسومات الشهداء، شعارات الانتفاضات، وصور الأمل تجعل من كل زقاق كتاباً مفتوحاً عن صراع المدينة مع حاضرها وماضيها.
أما في غزة، فالجدران تحولت إلى مسرح للمقاومة البصرية، حيث يرسم الفنانون على الركام جداريات تعبّر عن الهوية والصمود. في هذه المدن، لا ينفصل الفن عن السياسة ولا عن الحياة اليومية، بل يصبح تعبيراً صريحاً عن بقاء الناس وإصرارهم على الاستمرار.
أفريقيا: ألوان تعيد رسم المدن
في كيب تاون، يندمج التراث الأفريقي مع الإيقاعات الحديثة ليولد فن شارع يحتفي بالتنوع الثقافي.
أما في لاغوس، فتتحول الجدران إلى لوحات مبهرة تنبض بالطاقة، تحمل وجوهاً إفريقية فخورة وقصصاً عن المدينة الصاخبة. هذا المزج بين الحداثة والجذور يعطي لفن الشارع الأفريقي خصوصيته، حيث يتحول الحي الشعبي إلى معرض عالمي يزوره السائح كما يزور المتاحف.
لم يعد فن الشارع حكراً على السكان المحليين، بل صار محركاً سياحياً يجذب الزوار من أنحاء العالم. شركات سياحية متخصصة تنظم جولات سياحية حيث يتعرف السائح على القصص وراء كل عمل، ويلتقط صوراً تذكارية لا تقل قيمة عن زيارة برج إيفل أو الأهرامات. هذه الجولات لا تعرض فقط فناً بصرياً، بل تفتح الباب لفهم أعمق للهويات المحلية والتحديات التي تواجهها المدن.
بين التمرد والجمال، بين الذاكرة والخيال، يظل فن الشارع شهادة على قدرة الإنسان على تحويل الجدران الصامتة إلى جدران ناطقة. إنه فن لا يطلب إذناً للدخول إلى المتحف، ولا يميز بين غني وفقير، بل يطل على الجميع في الشوارع. إنها رحلة عالمية تعكس وحدة المشاعر الإنسانية رغم تنوع الثقافات والقارات، وتؤكد أن الفن حين ينزل إلى الشارع، يصبح ملكاً للجميع.