مارينباد"... عروس الينابيع الطبية التي أنعشت الأجساد وأتعبت قلبي غوته وشوبان"!

عند تخوم غابات بوهيميا العتيقة، ترقد بلدة صغيرة تائهة بين الأرض والغيوم، لتخبئ بين طياتها أسرار الصفاء ومتعة الاستشفاء. إنها مارينباد Marienbad أو كما يسميها التشيكيون "مارينسكي لازنيه" Mariánské Lázně حيث تنفست عبقرية غوته أنفاسها الأخيرة من العشق المتأخر، وتسللت نغمات شوبان من بين أصابعه المرتعشة لتخلد وجع الحنين على مفاتيح البيانو.
ومنذ القرن التاسع عشر، لم تكن هذه البلدة مجرد منتجع صحي، بل مسرح مفتوح لأحاديث السياسة، وقصائد الغرام، وتأملات الفلاسفة. بمياهها المعدنية التي تتفجر من رحم أرضها، وبهوائها العابق بأريج الصنوبر، أسرت مارينباد قلوب ملوك أوروبا ونخبها، حتى جعلها الملك البريطاني إدوار السابع داره الصيفية للديبلوماسية الهادئة، وهناك كانت تُعقد اللقاءات تحت ظلال الأشجار الوارفة، لا في صالات القصور الفخمة.
لقاء الأدب والموسيقى بالحكاية!
ليس عبثاً أن يخفق هنا قلب يوهان غوته العجوز وكأنه فتى في مقتبل العشق. ففي أحد أيام صيف 1821، وبين خرير الينابيع وهمس الغابات، التقى الأديب الألماني الكبير البارونة الألمانية الشابة أولريكا، ولم يكن يدري أن قلبه سيتخلى عن صلابته ويتحوّل إلى ريشة بين يدي شابة لم تعرف بعد قسوة الوداع. فرفضت أولريكا الزواج من رجل تجاوز السبعين من عمره، بينما كانت هي بعمر الورود. لم يكن الأمر عابراً، بل كان جرحاً عميقاً في حياة غوته ظل ينزف حتى كتب بعد عامين قصيدته الخالدة "مرثية مارينباد" - واحدة من أرقى ما جادت به قريحته، وأكثرها صدقاً ووجعاً.
وبعد سنوات، في عام 1836، استقبلت مارينباد زائر آخر، لا يقل رهافة أو موهبة - الموسيقي البولندي الشاب فريدريك شوبان الذي وصل إليها لخطبة صديقته الرسامة البولندية ماريا فودزينسكا. كانت الرحلة محمّلة بالأمل، لكنها لم تنته بزواج كما تمنى. رغم ذلك، لم تخرج مارينباد من قلب شوبان، ولم يخرج هو من ذاكرتها. فقد بادلت حبه بحفاوة خالدة - متحف يروي قصته، مهرجان سنوي يحيي فنه، ومدرسة موسيقى تحمل إسمه وتُخرّج مواهب تسير على خطاه.
مبنى الكولوناد
بلدة الينابيع العلاجية!
ما أن تخطوا خطواتكم الأولى في وسط البلدة حتى يطعالكم مبنى الكولوناد Colonnade الذي يقف كتحفة باروكية تنبض بالأناقة. بقناطره المزخرفة، وسقفه المزين بالرسومات، سينتابكم الشعور وكأنكم تتجولون في بهو قصر ملكي، لا في ممر لمنتجع صحي. ويُشكل مع "النافورة الغناء" The Singing Fountain المجاورة له مشهداً بانورامياً مهيباً يخلق لدى جميع المارة مزيجاً بصرياً وسمعياً مبهراً. على إيقاع خرير الماء المتصاعد من النافورة سيبرز أماكم تمثال برونزي للكاهن كاريل كاسبار رايتنبرغر الذي عاش بين عامي 1779- 1860. على قاعدة التمثال المصنوعة من الرخام السويدي الأحمر، نُقشت عبارة لاتينية تقول: "هذا هو الرجل الذي اكتشف المنافع العلاجية للمياه المعدنية وشجع على الاستفادة منها. ولذلك يستحق أن يُمنح لقب مؤسس البلدة". ليست هذه الكلمات مجرد تكريم، بل اعتراف بتاريخ طويل من الاستشفاء والأمل. فالمياه هي القلب النابض لمارينباد والمصدر الذي وهبها شهرتها العالمية. تحت أرضها، تتدفق عشرات الينابيع، من أشهرها نبع "ماريا" Mary’s Spring الذي لا يفيض بالماء فقط، بل بغاز طبيعي نادر غني بثاني أكسيد الكربون الذي يستخدم في علاجات طبية دقيقة تساهم في إستقرار ضغط الدم، وتحسين وظائف القلب والدورة الدموية. أما ينبوع "كروس سبرينغ" Cross Spring المميز بتصميمه المذهل الذي يحتضن 72 عموداً من الطراز الأيوني، فمياهه معروفة بقدرتها على تعزيز مرونة الأوعية الدموية، وكأنها تمنح الحياة مجدداً لجسد أنهكته الأيام. على مقربة منه، يتلألأ نبع "كارولينا" Karolina Springتحت قبة أنيقة تستند برشاقة إلى ثمانية أعمدة كورنثية الطراز، تنبعث منه مياه معدنية غازية غنية بالمغنيسيوم، معروفة بفوائدها الصحية في دعم القلب، وتهدئة الأعصاب، والمساعدة على تقليل التوتر وتحسين جودة النوم. أما نبع "رودولف" Rudolph Spring فقد اشتهر منذ عقود كمقصد علاجي لمن يعانون من أمراض المسالك البولية، وذلك بفضل مياهه المعدنية الغنية التي أثبتت فعاليتها من خلال تجارب الناس المتراكمة وشهادات الزوار الذين لاحظوا تحسناً ملحوظاَ في حالتهم الصحية. في عام 2021، أدرجت منظمة اليونسكو مارينباد ضمن قائمة مواقع التراث العالمي تحت عنوان "المدن العظمى للينابيع في أوروبا"، تقديراً لإرثها الغني في مجال العلاج بالمياه، وتميزها لمعماري الأخاذ، ودورها الثقافي المؤثر الذي إمتد عبر الأجيال.
تجربة الفخامة الصحية!
في قلب مارينباد يتألق فندق "نوفيه لازنيه" Hotel Nové Lázně كتحفة معمارية من العصر الذهبي. إفتتح عام 1896، ويتميز بينابيعه العجائبية التي تنساب في داخله، وغرفه الفخمة، وقاعاته المزدانة بأعمدة رخامية بهية الشكل، وثريات من الكريستال، ولذلك لا عجب لماذا كان بمثابة الملاذ المفضل للملك إدوارد السابع الذي عاش فيه تجربة رفاهية لا تضاهى.
الحمام الروماني الشهير في فندق "نوفيه لازنيه"
يُعد الحمام الروماني التاريخي في الفندق أحد أبرز معالمه، ويحافظ على غرفتين تحملان إسمي الملك إدوارد السابع والإمبراطور النمساوي فرانتس جوزيف الأول، اللذين إعتادا زيارة الفندق للنقاهة والإستجمام، وشرب المياه العذبة من الينبوع المتدفق في رحابه. تقصد المنتجع الصحي في الفندق أعداد كبيرة من المرضى الذين يعانون من أمراض المفاصل، والروماتيزم، وهشاشة العظام، حيث توفر برامج علاجية تشمل التمارين المتخصصة، والعلاج بالمياه الحرارية، والطين الطبي. كما يستقبل المنتجع من يعانون من أمراض جلدية مثل الأكزيما، الصدفية، وحب الشباب، حيث يستخدم الطين الغني بالأملاح إلى جانب العلاجات الضوئية، والمراهم المتخصصة لتحسين الحالة الجلدية بشكل فعال. كما تشمل البرامج العلاجية مجموعة واسعة من الحالات، من بينها إضطرابات الجهاز المناعي والعصبي والتنفسي، إضافة إلى مشكلات الجهاز الهضمي، والمسالك البولية والإضطرابات النسائية، وبعض الحالات السرطانية. من ربوع فندق "سنترالنيه لازنيه" Centrální Lázně Hotel بدأت ملامج شهرة مارينباد كواحدة من أبرز بلدات ينابيع المياه المعدنية في أوروبا. يُعد هذا الفندق الأقدم في البلدة، إذ شُيد عام 1812 في موقع أول حمام معدني عرفته المنطقة. ويُعرف بأنه موطن نبع "ماريا" الشهير، ولهذا يضم جناحاً حديثاً يحمل إسم "ماريا سبا"، حيث تنبعث غازات ثاني أكسيد الكربون الطبيعية المعروفة بإسم "غازات ماريا"، وتُستخدم هذه الغازات في علاجات طبية متخصصة تُضخ عبر أنابيب إلى غرف الإستشفاء، وتساهم في تحسين الدورة الدموية، وتحفيز وظائف الكلى، إلى جانب دورها الفعال في تخفيف الإلتهابات والآلام المزمنة. وسلسلة أماكن الأقامة الفاخرة في مارينباد لا تنتهي، ومن أبرزها فندق "هفيزدا هيلث سبا" Hvězda Health Spa Hotel الذي يحمل عبق الماضي في هندسته الراقية العائدة إلى عام 1905. ويُروى أن الأديب الألمانيغوته إلتقى صديقته أولريكا في هذا المكان الساحر، الذي إعتاد زيارته أيضاً الملك إدوارد السابع. وفي مسبح "هفيزدا" - أكبر مسابح البلدة - تنتظركم لحظات لا تُنسى من الإسترخاء، وسط أجواء من الرقي والهدوء. لا تبعد فنادق مارينباد كثيراً عن بعضها بعضاً، ففي قلب الطبيعة الخلابة، يطل عليكم فندق "باسيفيك هيلث سبا" Pacifik Health Spa Hotel الذي يضم منتجعاً صحياً شهيراً يُقدم علاجات متخصصة لإعادة التأهيل بعد العمليات الجراحية، إلى جانب برامج فعالة لمواجهة أمراض العضلات وهشاشة العظام بالإعتماد على المياه المعدنية من الينابيع الطبيعية المدعومة بخبرة طبية طويلة الأمد. فهذه الفنادق ليست مجرد أماكن إقامة، بل محطات تعيد إحياء سحر الزمن الجميل في قالب من الرعاية الصحية المتقدمة، لتمنح زوارها تجربة متكاملة تجمع بين الراحة، الشفاء، والتاريخ العريق.
في فندق "هفيزدا" نبض قلب"غوته" بالحب
"مارينباد" في سطور!
- تقع "مارينباد" في غرب جمهورية التشيك، على بعد 170 كيلومتراً من العاصمة براغ، أي ما يعادل ساعتين ونصف بالسيارة. وتعد هذه الوجهة من أبرز المنتجعات الصحية في أوروبا، لما تتميز به من طبيعة خلابة وموارد علاجية فريدة.
- تضم أكثر من 40 ينبوعاً معدنياً، يستخدم العديد منها في علاج حالات صحية متنوعة، من أمراض الجهاز الهضمي والمفاصل إلى اضطرابات الجهاز التنفسي والدورة الدموية.
- يمكنكم دخول جمهورية التشيك باستخدام تأشيرة شنغن نظراً إلى كونها عضواً في منطقة شنغن.
- العملة الرسمية هي الكرونة التشيكية، ويبلغ سعر الصرف التقريبي 21 كرونة مقابل الدولار الأميركي الواحد.
- اللغة الرسمية هي التشيكية، إلا أن معظم العاملين في قطاع السياحة والخدمات يتحدثون الإنكليزية بطلاقة.
- توفر سلسلة فنادق "إنسانا" المنتشرة في أنحاء مارينباد تجربة متميزة تجمع بين العلاجات الطبيعية المتخصصة وأجواء راقية تعنى بالراحة والعناية الصحية. إكتشفوا المزيد عن الفنادق والخدمات العلاجية عبر الموقع الرسمي: ensanahotels.com/marianske-lazne