عبر الأصوات أسافر: مدن تروي قصصها بالموسيقى اليومية

عبر الأصوات أسافر: مدن تروي قصصها بالموسيقى اليومية
Smaller Bigger

للسفر إيقاعه الخاص، موسيقاه التي لا تُعزف على المسارح، بل تتشكّل في الأزقة والشوارع، في الأسواق والمقاهي، في أصوات الحياة التي تروي قصص المدن بدون الحاجة إلى كلمات. منذ رحلتي الأولى، اكتشفت أنني لا أجمع صوراً فقط، بل ألتقط أنغاماً تسكن الذاكرة، وأحمل معي مقطوعات غير مرئيّة، تعيدني إلى تلك الأماكن كلّما أغمضت عيني.

في كل مدينة مررت بها، اكتشفت أن الأصوات ليست مجرد خلفية للحياة، بل هي ذاكرتها الحية، توقظ المشاعر كلما استرجعتها. بعض الأصوات تأخذك إلى أماكن بعيدة، إلى لحظات علقت في الذاكرة، حيث شعرت بشيء لم أفهمه تماماً وقتها، لكنه بقي معي، كجزء مني. 

إسطنبول: تداخل الأزمنة في إيقاع المدينة

 


حين وصلت إلى إسطنبول، كان أول ما لفت انتباهي هو إيقاعها المميز، ذلك المزيج من الأصوات التي تبدو وكأنها تعزف سمفونية فريدة لا تنقطع. وقفتُ على ضفة البوسفور، حيث كانت النوارس تحلّق فوق المياه، تطلق صرخاتها المتداخلة مع أصوات العبّارات التي تصل وتغادر، محمّلةً بالركاب المستعجلين. كان الهواء يحمل رائحة البحر، ممزوجة برائحة السمك المشوي المنبعثة من أكشاك صغيرة يديرها رجال يساومون الزبائن بصوت مرتفع، وكأنهم جزء من هذا المشهد الصوتي المتكامل.

في طريقي إلى السوق المسقوف، مررت بأزقة ضيقة حيث تنبعث روائح التوابل والمخبوزات الطازجة. عند المدخل، دوّى صوت النحاس وهو يُطرق بحرفية، فيما تعالت أصوات التجار الذين ينادون بلغات ولهجات مختلفة، يعرضون بضائعهم للمارّة الذين يتفاوضون بابتسامات حذرة. اقتربتُ من أحد الأكشاك، حيث كان البائع يلوّح بسلسلة مفاتيح فضية، يقرعها بلطف ليجذب الانتباه. كل ركن في السوق كان ينبض بالحياة، من قعقعة الأساور الذهبية إلى نقرات الملاعق على أكواب الشاي الصغير، حيث يجلس الحرفيون ليأخذوا استراحة قصيرة وسط يومهم المزدحم.

وفي أحد شوارع حي الفاتح، وقفتُ لبرهة عندما ارتفع صوت الآذان من مسجد قريب. كان النداء للصلاة يتردّد بين المآذن، ينساب فوق الأزقة والأسطح، ممتزجاً بأصوات المدينة. حتى داخل الحافلة الصغيرة التي أقلّتني لاحقاً، كانت هناك إيقاعات أخرى: الركاب يتبادلون أحاديثهم بالتركية، وأحياناً تتسلل كلمات بالإنجليزية أو العربية من مسافرين آخرين. كل شيء كان ينبض بإيقاع خاص، إيقاع مدينة لا تشبه غيرها، مدينة تحمل صوت التاريخ والحاضر في آن واحد.

مراكش: إيقاع الأسواق وحكايات الساحات

 


في مراكش، لا تهدأ الأصوات لحظة، وكأن المدينة تعزف مقطوعتها الخاصة، حيث تمتزج الأحاديث والنداءات والأنغام في سيمفونية نابضة بالحياة. في ساحة جامع الفنا، يعلو صوت الطبول، إيقاعها الرتيب يتخلّله رنين الأجراس التي يهزها بائعو التعويذات والحلي النحاسية. وسط هذا الصخب، يرتفع صوت الحكواتي وهو يسرد قصصاً قديمة بنبرة درامية، يتوقّف عند لحظات التشويق، فيحبس الجمهور أنفاسه قبل أن يواصل الحديث، فتتداخل ضحكات المستمعين مع تصفيقاتهم الحماسية.

في الأسواق العتيقة، يعجّ المكان بالنداءات التي تتناثر من كل زاوية. "تفضل، يا سيدي، أجود الزعفران!"، "أفضل الجلود هنا!"، يصرخ الباعة، أصواتهم تتداخل في لحنٍ عشوائي لكنه مألوف. صوت الموازين النحاسية وهي تزن التوابل يترافق مع حفيف أكياس الورق، ورنين العملات المتساقطة في الأيدي، بينما يعلو صوت ضحكة فجائية من أحد التجار وهو يمازح زبونه أثناء التفاوض.

في أحد الأزقة الضيقة، تتسلّل نغمة حالمة من آلة العود، يعزفها موسيقي جالس على سجادة قديمة، يتبعها صوت التصفيق المتردّد من أحد العابرين الذي توقف للاستماع. في مكان آخر، يُسمع خشخشة الأوراق عندما يدون خطاط أسماء السياح على قطع من الجلد، يتخللها طقطقة الأساور النحاسية التي ترتطم ببعضها بينما تجرّبها إحدى السيدات على معصمها.
وحتى في أكثر الأماكن هدوءاً، لا تخلو مراكش من صوت يحكي قصتها، صوت يعيش في ذاكرتك حتى بعد مغادرتها.

باريس: الهمس الرومانسي 

 


في صباح باريس البارد، كان كل شيء ينبض بإيقاع هادئ. خطوات المارة تتردّد فوق الأرصفة الحجرية بإيقاع متناغم، تتخلّلها أصوات التحيات الصباحية. أمام أحد المخابز، ينبعث صوت صرير الباب الخشبي مع كل زبون يدخل ليطلب الكرواسان الطازج، فيما يدوّى صوت الملاعق المعدنية وهي تصطدم بحواف فناجين الإسبريسو.

على الضفة اليسرى لنهر السين، تمتزج أنغام أكورديون يعزفها رجل مسنّ مع صوت تهادي القوارب وهي تشق الماء ببطء. بعيداً قليلاً، نادل ينادي في مقهى على زبونه المعتاد، ينطق اسمه بلهجة باريسية مميزة، بينما تتعالى ضحكة خافتة من طاولة قريبة حيث يتحدث عاشقان بصوت منخفض، وكأنهما جزء من سيمفونية المدينة الصباحية.

عند حلول المساء، يتغيّر المشهد تماماً. على الجسور، يدوّي صوت أوتار الغيتار التي يعزفها فنانون متجوّلون، تتخلّلها تصفيقات المارة بين الحين والآخر. وفي الشوارع الجانبية، تتعالى ضحكات العابرين وصوت ارتطام الكؤوس في الحانات المزدحمة. حتى في الأزقة الضيقة، كان صوت الأحذية يقرع الأرضية الحجرية بوتيرة أسرع، وكأن الليل يسرّع نبض المدينة. باريس، في كل لحظة، تعزف لحناً مختلفاً، لكنه دائماً ينتمي إليها.

مومباي: سيمفونية الفوضى والنظام

 


ثم هناك مومباي، المدينة التي لا تهدأ أبداً، حيث يمتزج القديم بالجديد في إيقاع مستمر. في محطة فيكتوريا، يعجّ المكان بأصوات القطارات التي تصل وتغادر، تتخلّلها نداءات البائعين الذين يروّجون للشاي الساخن: "تشاي، تشاي!". في الشوارع، يسيطر هدير السيارات المستمر، مع أصوات الأبواق التي تنسج لحناً فوضوياً لكنه مألوف لسكان المدينة. وفي حي كولابا، يختلط صوت أمواج البحر مع ضحكات الشباب الذين يجلسون على الصخور، مستمتعين بنسيم المساء. حتى الأسواق التقليدية تحمل أصواتها المميزة، من البائعين الذين ينادون على بضائعهم إلى صوت العمل في ورش الخياطة والنجارة، ما يجعل مومباي مدينة لا تعرف الصمت.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/8/2025 3:44:00 AM
أقدم شقيق النائب الأردني السابق قصي الدميسي على إطلاق النار من سلاح رشاش تجاه شقيقه عبد الكريم داخل مكتبه، ما أدى إلى وفاته على الفور.
اقتصاد وأعمال 10/7/2025 5:24:00 AM
سترتفع كلفة تسديد مفاعيل التعميمين من نحو 208 إلى 260 مليون دولار شهريا، بزيادة نحو 52 مليون دولار شهريا
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".
لبنان 10/7/2025 1:21:00 PM
 النائب رازي الحاج: ابتزاز علني لأهل المتن وكسروان وبيروت