فضل شاكر: لغز كنز الإحساس الدائم

فن ومشاهير 15-12-2025 | 15:35

فضل شاكر: لغز كنز الإحساس الدائم

لم يجد من يحتضنه، لم يدخل الفن من بواباته المزخرفة، بل من إصراره الذاتي، واختبارات الحضور الصافي الذي لا تُزيِّنه صناعة ولا تراوغه التجميلات التقنية.
فضل شاكر: لغز كنز الإحساس الدائم
فضل شاكر.
Smaller Bigger

 

د. شاهر النهاري

 

تأبى الحياة إلا أن تكتُب لبعض الأصوات مسارات لا تشبه غيرها، مسارات عنيفة تتقاطع فيها الموهبة بالقدَر، ويختلط فيها المجد الفني بغيوم الغياب.

وضمن هذه الدهاليز الملتبسة يطل فضل شاكر، فنانٌ خرج من الهوامش ليصير علامة فارقة جاذبة محزنة بأن انسحب إلى الظل ليغدو لغزاً جاذباً مدهشا لا ينطفئ بريقه.

منذ بداياته كان يتضح أنه وُلد خارج القوالب.

لم يجد من يحتضنه، لم يدخل الفن من بواباته المزخرفة، بل من إصراره الذاتي، واختبارات الحضور الصافي الذي لا تُزيِّنه صناعة ولا تراوغه التجميلات التقنية.

كان يمتلك خامة صوتية لا تهادن، رقيقة تمتلك القدرة، وقادرة على أن تزلزل طبقات الإحساس في بحور العشق، حتى ولو ترنم بنشرة أخبار!

ومن بين الأصداء، لم يكن فضل مجرد مؤدٍّ، بل حالة ندرة فنية معجونة بنبرة تميز لا تتكرر، تملك جرأة الاقتراب من أعمال كبار الغناء العربي وعبورها من دون خوف من المقارنة، بل بثقة من يعرف أن النصوص والأنغام ستجد مكانها الحقيقي على حباله الصوتية حد التماهي.

غنّى لأم كلثوم وفيروز وعبد الحليم ووردة وعفاف، فكان يعيد رسم أعمالهم كما لو أنها نُسجت من جديد لحباله الصوتية، يخلع عنها غبار الزمن ويمنحها حميمية لا يعرفها ولا يحسنها إلا هو.

وفي حفلات عفوية غير مكتملة الشروط، وبعيداً عن الإعداد المفرط والبروفات الدقيقة، كان يطلّ على المسارح مرتجلاً خجولاً ومتواضعاً، لكنه يحمل الجمهور في غيمة عشق وكأنه خرج من طقس روحي لا من أمسية غنائية.

ثم صدرت له ألحان خاصة، لم تكن إلا تحفاً فنية، وعلامات، لا تقارن.

غير أن المسارات الاستثنائية للمبدعين لا تكتمل في العادة.

وكما قطع الغموض تميز أسمهان وذكرى في لحظات خاطفة، جاء الدور على فضل ليجد نفسه محاطاً بدخان الالتباس، متورطاً في ما لم يحسب حسابه، هارباً من ضجيج العالم، محتمياً بسقوف من الزينكو، ومن أعداء ظهروا له من كل جانب، وبمحاولات إعدام زمنه الفني بمقصلة الضجيج، ومحو فنه في زمن آخر لم يستطع التصالح معه.

وطوال اختبائه، ومعاناته من خوف وشائعات وتشنيعات تُنسج حوله، كان صوته يهتف مرات من خلف العزلة بترنيمات عابرة، لكنها شديدة اللمعان، تشبه رسائل البحث عن عشق مراهقة في زمن الحروب: ضعيفة في شكلها، قوية في أثرها.

وبالضجيج تنازعت صورته روايتان: رواية جمهور واسع يرى فيه فناناً استثنائياً يحترق بتناقضاته، ورواية خصوم لم يغفروا لصوته أنه تفوّق عليهم قبل وأثناء تعثره.

كان الانقسام حوله مرآة لتاريخ طويل يُحاكم فيه الفنان بقدر ما يُحتفى به، ويُدان بما هو خارج الفن أكثر مما يُقاس بما قدّمه له.

لم يحظَ فضل بما حظي به نجوم عصره من رعاية وشبكات دعم، بل وجد نفسه يدفع ثمن نزوة أو خطأ أو انكسار أو ربما سوء تقدير أو سوء فهم، لكنه رغم عمق عثرته ظلّ نجماً يرمي بزخات الضوء من خزائنه البعيدة.

لم يسقط فنه حتى حين سقط حضوره.

بل بقيت الأغنيات التي أدّاها تُشاغب ذاكرة المستمعين، وتشدهم إلى عمق بحور الفن، وتذكّرهم بأن بعض الأصوات تُخلق من مادة لا تصدأ، مهما تكالبت عليها الظروف.

حكاية فضل شاكر لم تُكتب نهايتها بعد.

وقد يكون مذنباً أو بريئاً، ناشزاً أو مظلوماً، لكن المؤكد أنه فنان من سلالة الندرة.

صوته يظل قادراً على تحويل الجملة الموسيقية إلى حرارة ملموسة، وعلى اقتناص تفاصيل لا يراها غيره.

وإن عاد، فسوف يعود كمارد يخرج من الرماد وفي يده شعلة أحاسيس قديمة لا تزال تتقد.

وإن بقي في ظله، أو تعاظم سجنه، فسيظل أحد الأصوات النادرة، التي نَحتت اسمها فوق ذاكرة أهرامات الغناء العربي، وتركَت خلفها لغزاً مفتوحاً تطول تفسيراته وتتعرج، وسيبقى هو ومشاعره سلوة للحكايات المقهورة مهما كثر كلام من يعتقدون أنهم أزاحوه من طريقهم!

 

فضل شاكر ونجله.
فضل شاكر ونجله.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

دوليات 12/14/2025 3:19:00 PM
تحوّل صاحب متجر الفواكه أحمد الأحمد إلى "بطل بوندي" بعدما انتزع سلاح أحد المسلحين خلال هجوم على احتفال الحانوكا في شاطئ بوندي بسيدني، منقذًا عشرات الأرواح قبل أن يُصاب ويُنقل إلى المستشفى.
دوليات 12/15/2025 1:50:00 PM
يقضي الأطفال ووالدتهم معظم وقتهم في التسوق، ويملأون منزلهم الروسي الجديد بالسلع الفاخرة، بحسب مصدر قريب من العائلة.
دوليات 12/15/2025 2:38:00 PM
تحدّثت تقارير عن صلة محتملة لإيران واستخباراتها بهجوم سيدني.
العالم 12/14/2025 11:00:00 PM
الأب لقي حتفه بينما يرقد الابن في المستشفى.