كانت ليلة الجمعة، السابع من تشرين الثاني، محطة فنية مميزة في المشهد الثقافي اللبناني. في رحاب كنيسة القديس يوسف للأبـاء اليسوعيين في الأشرفية، وبدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى المؤلفة هبة القواس، اجتمعت الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية بقيادة المايسترو لبنان بعلبكي، مع الموسيقار العالمي، عازف البيانو والمؤلف عبد الرحمن الباشا، لتقديم أمسية موسيقية استثنائية، جسدت قوة الفن وسمو الذائقة.

لم تكن هذه المرة الأولى التي يطل فيها الباشا على جمهور المعهد، فقد أحيا أمسيات سابقة منفردًا ومع الأوركسترا. وكما هي العادة، امتلأت الكنيسة بمحبيه من الرسميين والفنانين والدبلوماسيين وجمهور الموسيقى، حتى ملأ الحضور المقاعد والأروقة والممرات الجانبية، في حدث موسيقي يعكس قوة حضوره وتميز الأوركسترا بقيادة بعلبكي، وإصرار المعهد على إبراز الوجه الحضاري للبنان.

المايسترو لبنان بعلبكي (المكتب الإعلامي).

افتتحت هبة القواس الأمسية بكلمة لامست العمق الوجداني، مؤكدة على قدرة الموسيقى على إعادة ترتيب العالم على مقياس الجمال، واصفة الباشا بأنه رمز العبقرية اللبنانية، الذي يمزج بين الأصالة والكونية، بين التقنية والرؤية، بين حس الأرض ونفَس الروح. وأضافت أن عزفه يتحول إلى اعتراف إنساني وحوار بين الإنسان والمطلق، وأن الموسيقى قادرة على إعادة معنى الانتماء والسكينة، شاكرة الأب دوني على احتضان اللقاء.

لم يكن بالإمكان استعادة هذه الأمسية دون التوقف عند عظمة عزف عبد الرحمن الباشا، الذي نشأ على يد ساركسيان وأكمل دراسته في باريس، ليبرع على أعظم مسارح العالم. عزفه على البيانو كان مفتاحاً لباب القداسة، ينقل المستمع إلى أقصى درجات الدهشة والإصغاء. كل نوتة تحت أنامله تزهر حقولًا من العاطفة والعمق الإنساني، ويظهر في أدائه استخدامه لجسده كموصل للطاقة الصوتية وذهنه كمصفاة للعمق العاطفي.

عازف البيانو والمؤلف عبد الرحمن الباشا (المكتب الإعلامي).

تجربة الاستماع لعزفه هي رحلة كونية، تجمع بين الهندسة الصوتية الدقيقة والعمق النفسي، وتتميز لمسته بقدرتها على التدرج بين الهمس والقوة، مع خلق توازن صوتي مذهل يعطي إحساسًا بعزف آلتين في تناغم فريد. أداء الباشا تجاوز الميكانيكية، فحوّل النوتة إلى تجربة زمنية وعاطفية، ما جعل الموسيقى تتنفس وتتأمل.
افتتح الباشا الأمسية بعمله الخاص "الحجاج، مقدمة وترتيلة"، مقدماً هويته الموسيقية المتعددة الأبعاد، حيث امتزج الشرق التأملي بالغرب المنظم، ثم انتقل إلى كونشرتو موزارت رقم 23، مجسدًا الروح الموزارتية بمهارة فائقة، بدءًا من Allegro المرن، مرورًا بـ Adagio العاطفي، وانتهاءً بـ Allegro assai المفعم بالطاقة الموجهة.

أما العصب النابض للأمسية فكان المايسترو لبنان بعلبكي، الذي أظهر براعة في بناء جسر بين أداء الباشا الفردي والتجسيد الجماعي للأوركسترا، خصوصًا في سمفونية تشايكوفسكي الخامسة، حيث قاد الأوركسترا بتمكن ومهارة لتصل إلى ذروة التعبير الصوتي.

جمع هذا الحدث بين ثلاثة أضلاع فنية متكاملة: عبقرية الباشا في العزف والتأليف، براعة بعلبكي في القيادة، والتزام الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية. ليلة أكدت أن بيروت لا تزال منارة للفن والموسيقى، وقادرة على استضافة أعلى مستويات الإبداع العالمي بلغة فنية راقية.