الفنان التشكيلي السعودي راشد الشعشعي لـ"النهار": ما كان حلماً أصبح واقعاً

لم تكن هذه زيارتي الأولى لـ "استديو شعشعي" في حي جاكس بالرياض، فقد كنت محظوظة سابقاً بإجراء مقابلات مع فنانين مبدعين فيه، إلى جانب حضور معرض "سرمد" الذي فتح أبوابه للعديد من الفنانين والمصممين المحترفين والهواة، إلا أن هذه الزيارة كان لها وقع مختلف، إذ أتاحت لي فرصة التعرف عن كثب إلى فكر صاحب الاستديو، الفنان التشكيلي السعودي راشد الشعشعي، وإبداعاته في هذا الفضاء الواسع.
وفي هذا اللقاء الخاص، قدّم الشعشعي لـ"النهار" رؤيته للمشهد الثقافي السعودي، وكيف يسهم في تحويل الإبداع إلى تجربة جماعية ومؤثرة.
أعمالك تُعرض في معارض عدّة ومدن مختلفة، ما الذي يميّزها برأيك؟ وما الرسالة التي تحرص على إيصالها؟
أصبحت الثقافة أشبه بقرية واحدة مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي والانفجار المعرفي في العالم، فالمتلقي صار يشبه أيّ متلقٍّ في أي مكان. الفرق أحياناً يكون في بعض التفاصيل الصغيرة، وهذا يعتمد على الفنان نفسه، وكيف يستطيع أن يجعل لغة الأعمال الفنية أو المشاريع التي يقدّمها لغة عالمية أكثر من كونها محصورة بثقافة محددة.
والرسالة الأهم دائماً أن الفن يخلق أسلوب حياة أفضل، ويمنح الإنسان جودة حياة أكثر وعياً وثقافة، من خلال رسائل أو أعمال فنية تُوجّه الضوء نحو قضايا تساعد الإنسان على أن يعيش بطريقة أفضل دائماً.
يُعدّ "الهرم الخامس" من أكبر وأشهر أعمالك الفنية، وقد حاز جائزة "غينيس" كـ"أكبر عمل فني مضاء على شكل هرم مصنوع من مواد قابلة لإعادة التدوير". كيف تصف هذا العمل؟ وهل توقعت أن يحصد هذا النجاح؟
باعتقادي الشخصي، تمرّ الرياض اليوم بمنعطف ثقافي مهم جداً، كما يسمّيها بعض المثقفين والفنانين "طفرة ثقافية وفنية" بمستوياتها المختلفة. جمهور الرياض أصبح توّاقاً لرؤية الجديد والمختلف والمثير، ولم تعد تدهشه الأشياء المعتادة أو التقليدية.
"الهرم الخامس" جاء بعد سلسلة من أربعة أهرام سابقة في مدن ودول مختلفة، لكنها لم تحظَ بحجم التأثير الذي حظي به هذا العمل، لأسباب عدة، من أهمها أن الجمهور في الرياض أصبح أكثر قرباً من الحالة الفنية، وعدد الزائرين كان ضخماً ومتنوّعاً بثقافاتهم ووعيهم وجنسياتهم. وهكذا تحوّل المشروع من فكرة عمل فنّي إلى تجربة جماهيرية تخاطب شرائح المجتمع المختلفة.
في الفن لا يكون الاهتمام عادة بفكرة "الأضخم أو الأكبر أو الأطول" بقدر ما هو بقيمة التأثير الحقيقي في وعي المتلقي. لم أكن متحمّساً لفكرة الجائزة بحد ذاتها، بقدر حماستي لردود فعل الجمهور بعد حصول العمل عليها. ومع جائزة "غينيس" حصل العمل على انتشار أوسع ووصل إلى شرائح مختلفة أكثر.
لم يعد الفنان يعمل كمؤسسة فردية، فالممارسة الفنية أصبحت عملاً جماعياً تتضافر فيه جهود الفنانين والمهندسين والمعماريين والعلماء والمتخصصين في مجالات مختلفة لخلق الدهشة. لقد شارك في تنفيذ المشروع عدد كبير من الأشخاص من خلفيات متنوعة في المعرفة والتخصص، وكأننا نبني نصباً تاريخياً يعبّر عن قدرة الفن على أن يكون مساحة لتلاقي الجهود والتأثير الجماعي.
كيف تصف المشهد الفني في المملكة العربية السعودية اليوم؟ وكيف ترى تطوره في السنوات المقبلة؟
يشهد المشهد الفني في المملكة العربية السعودية اليوم ازدهاراً لافتاً، ومع كل خطوة نلاحظ أننا نتقدّم نحو مراحل أفضل وأكثر نضجاً. هناك إيمان راسخ من القيادة بقدرة الفن والثقافة على الإسهام في تحسين جودة الحياة للمواطنين والمقيمين في المملكة، ويتكامل ذلك مع جهود مؤسسات مثل وزارة الثقافة برئاسة الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان.
كل عمل فني يُنتج أو يُطوّر في المملكة اليوم بات محط أنظار العالم، لأن الجمهور أصبح متحمّساً لاكتشاف المشهد السعودي من الداخل. ولفترة طويلة، كان الآخرون يتحدّثون عن السعودية، أما اليوم، فالسعودية هي من تروي حكايتها، والفرق كبير بين أن تُروى قصتك، وأن تكون أنت من يرويها بالطريقة التي تريدها.
إلى أي مدى تحرص على أن تكون هناك رؤية استدامة مرافقة لكل فكرة تعمل عليها؟
الاستدامة جزء لا يتجزأ من حياة أجدادنا وآبائنا في الجزيرة العربية، فلولا قدرة الإنسان العربي على التكيّف مع البيئة الصحراوية القاسية وابتكار أسلوب حياة منسجم مع معطياتها، لما استمر هذا الوجود. واليوم، أصبحت الاستدامة محوراً أساسياً في عمل المؤسسات الفنية والثقافية، إذ باتت تُناقَش الأعمال الفنية خارج الأطر المعتادة، وتُقاس قيمتها بمدى استدامتها وتأثيرها الواعي.
أما إعادة التدوير، فهي من أهم أدوات هذا الوعي، إذ تتيح الاستفادة القصوى من الموارد الطبيعية وتقليل الأثر البيئي. فعدد سكان الأرض في تزايد مستمر، بينما تبقى الموارد محدودة، ما يفرض علينا التفكير بطرق جديدة لإعادة استخدام المواد، والتطوّر بما يحافظ على البيئة بدل أن يستنزفها.
ما دور الهوية السعودية في تشكيل الهوية الفنية؟
نحن محظوظون بوجودنا في هذا الزمن وفي هذا البلد. كفنانين، أحلامنا وطموحاتنا تتجدد كل يوم، لأننا نعيش مرحلة غنية بالفرص والمعطيات التي لم تكن متاحة قبل سنوات قليلة. ما كان حلماً أو تجربة محدودة قبل خمس سنوات أصبح اليوم واقعاً واسع الإمكانات.
الفن لا يعالج المرضى ولا يبني المدن، لكنه يعالج سياقات الإنسانية والمعرفة، ليجعلها أكثر وعياً ونضجاً. إنه يرقّي ذائقة الإنسان ويجعله يعيش حياة أعمق وأغنى.