"مدفع رمضان"... بابا نويل بالخلطة المصرية!

ثمة تاريخ خاص للحظات ما بعد الإفطار في التلفزة المصرية، ربما حلقات كوميدية مسلية للثنائي فؤاد المهندس وشويكار، أو فوازير نيللي وسمير غانم وشريهان، أو حلقات "ألف ليلة وليلة". لكن من استحوذ على هذه الفترة الذهبية حيث تلتف فيها ملايين الأسر المصرية حول مائدة الإفطار، كان رامز جلال بسلسلة طويلة من برنامج المقالب الشهير الخاص به.
لذلك فرضت المقارنة نفسها مع دخول محمد رمضان على الخط وظهوره عقب الإفطار في برنامج مسابقات اجتماعي بعنوان "مدفع رمضان" إخراج ياسر سامي.
يشير التحليل الأولي لبيانات المشاهدة إلى تفوق كاسح لـ"مدفع رمضان"، ربما لأنه يبدأ نسخته الأولى، بينما استنفد رامز كل حيل المقالب، إضافة إلى أن فرق النجومية لمصلحة رمضان، وأنه يركز على الناس البسطاء والمهمشين وليس على النجوم والمشاهير كما يفعل رامز. أي أن الانطباع الأولي عن سردية رمضان أنها تعاطفية تنتمي إلى الناس وتحاول أن تساعدهم وتلبي أحلامهم، بينما تبدو سردية رامز استعلائية وتدفع الأموال لمشاهير لا يحتاجون إليها أصلًا.
إعادة تسويق
برغم أن محمد رمضان ذكر في حلقته الأولى أن البطولة هنا للناس لأنهم سبب كل ما حققه من شهرة وثراء، وبرغم أنه يقاسمهم المشهد، ويذهب إليهم في الميادين العامة والحواري والأزقة والبيوت القديمة، لكن هذا لا ينفي أنه يعيد تسويق نفسه وتلميع نجوميته في ظل غيابه عن سباق الدراما الرمضانية منذ عامين.
يظهر هذا في "التتر" حيث يتقمص مجموعة كبيرة من "الكراكترات" المعبرة عن عموم المصريين، وكأنه يشير ضمناً إلى براعته كممثل، وإلى تماهيه مع أنماط المصريين كافة ويعبر عن أرواحهم وملابسهم ومهنهم ورقصهم وأغانيهم.
أيضاً تميز "التتر" بطابع شعبي كرنفالي وازدحام الوجوه وكتل البشر التي تلتف حول رمضان، بوصفه بطلاً من هذا الشعب، كما تخللت فقرات البرنامج إشارات متكررة إلى مسلسلاته وأفلامه، ومقاطع من أغانيه الشهيرة ورقصاته المميزة.
بهذا المعنى أعاد رمضان تدوير مشواره الفني كله، بما في ذلك "أفيهاته" المعروفة والنسج على منوالها مثل: "اللي عيني هاتلمحه هافرحه".
عودة البطل
ثمة قصة عن ثري يعود إلى بلدته ويقرر أن يوزع عليهم المال باعتباره أساس كل سعادة، لكن المهمة لا تسير بالبساطة التي خطط لها. هذه الفكرة الملهمة قديمة ومؤسسة في اللاوعي البشري عن البطل الغائب، أو العائد الذي سيصلح كل ما أفسده الجميع.
يتردد صداها أيضاً في الأساطير والقصص الدينية، ولعل أشهر نموذج شخصية "بابا نويل" بلباسه الأحمر التنكري وجولاته في الشوارع عشية أعياد الميلاد، حيث يوزع الطعام والملابس والهدايا على المحتاجين. وأهم ما يميز تلك الشخصية أنها ظلت تتطور على مدى قرون حتى اكتسبت شكلها الحالي في القرن العشرين، إضافة إلى أنه يعد بديلًا عن شخصية السيد المسيح المتعاطفة مع الفقراء وآلام البشر.
وثمة برامج مصرية عدة تلفزت تلك الأسطورة بتنويعات مختلفة، أشهرها برنامج رمضاني قديم بعنوان "كلام من ذهب" للإعلامي طارق علام، فقبل ثلاثين عاماً كان علام بهيئته كشاب خلوق ومتعاطف يتجول على طريقة بابا نويل في الشوارع والميادين ويلتقي البسطاء ويجري معهم حوارات ساذجة كلها تدور حول "نفسك في إيه؟" والرابح يكسب جنيهاً من ذهب (يعادل الآن نحو ثلاثين ألف جنيه).
مجدداً يغامر رمضان مغامرة مضمونة، على خطى طارق علام، مع فروق كثيرة جداً لصالحه، أهمها القيمة الضخمة للجوائز ما بين مئة ومئتي ألف جنيه للشخص.
وبينما كان علام يؤدي أداء فاتراً وحيادياً وبالكاد يحضن سعيد الحظ، فإن رمضان يوظف كل ملكاته التمثيلية والاستعراضية، فيغني ويرقص مع الجموع، ويصنع مسرح شارع مبهج يشارك فيه العشرات بأداءات عفوية لطيفة تدخل السعادة على قلوب المشاهدين.
كما تنوعت فقراته ومنها لقاء أحد الأشخاص البسطاء وتوجيه سؤال بسيط له مثل رقم معين في تذكرته إذا كان في محطة القطار، أو إذا كان هاتفه عادياً لا يحتوي على كاميرا، واختيار آخر بالحظ دون أسئلة لإسعاد الأشد فقراً، وكذلك فقرة "سيارة الأحلام" التي تجوب محافظات مصر حيث يضع الجمهور في صندوقها أحلامهم المكتوبة، مثلما اعتاد المصريون أن يكتبوا أحلامهم في صناديق النذور في الأضرحة ومقامات الأولياء، لكنها هذه المرة تصل إلى يد رمضان فيختار منها حلماً يحققه فوراً، ويضع الحلم الآخر في صندوق خاص، وصولاً إلى الحلقة الأخيرة حيث يتنافس ثلاثون شخصاً على ربح مليون جنيه.
وكذلك فقرة الاتصال بأرقام عشوائية، أحدها كان مع سيدة رفضت الاستمرار في المكالمة وأغلقت في وجهه فخسرت مئتي ألف جنيه! وأخيراً فقرة السؤال الموجه للمشاهدين والرد عبر الرسائل النصية حيث يربح الفائز مئتي ألف جنيه.
فالبرنامج يوزع جوائز يومية قد تصل إلى مليون جنيه (20 ألف دولار)، ما يجعله من أكثر برامج المسابقات سخاء، ويضمن له نسب مشاهدة عالية، وهو ما ظهر في "الكوميكس" والتعليقات المصرية المرحة، وكيف يجلس المصريون جميعاً وهواتفهم في أيديهم في انتظار اتصال رمضان!
رؤية بصرية
إذا كان رامز يعتمد على ديكور معد بعناية، وإذا كان طارق علام قديماً اكتفى بصورة بصرية فقيرة للشوارع، فإن رمضان تفوق بخلق لغة بصرية حية للشارع المصري، برغم صعوبة التصوير بين الناس وما يتطلبه من إضاءة وهندسة صوت، ووجود سيارات البرنامج والزحام، وعشرات من يلتفون للتصوير بهواتفهم، لكن المخرج ياسر سامي قدم صورة دافئة متعاطفة تجمّل بؤس الواقع وتحتفي بابتسامات الوجوه الكادحة وزغاريدهم ورقصهم، ومشيهم في عوالمهم الخاصة، بإيقاع سريع متدفق، تنوعت من خلاله زوايا التصوير، ومنها لقطات واسعة من أعلى، بمصاحبة موسيقى مبهجة.
فنحن إزاء مشهدية رائقة مليئة بالمشاعر، والتفاصيل العفوية بين رمضان وضيوفه، مثل لحظة ارتداء التاج والعباءة للفائز، تبادل العناق، حرص رمضان على تقبيل أيدي كبار السن ورؤوسهم، إضافة إلى خفة الظل المعهودة عند المصريين، وردودهم غير المتوقعة، فمثلًا عندما سأل "أم ناصر": "ما نفسكيش في عمرة؟" ردت بعفوية: "أنا مسيحية يا ابني". الطريف في الموقف هنا أن كنية السيدة تصلح للمسلمة والمسيحية، وكذلك ملابسها المحتشمة، ولون بشرتها. فعفوية المشهد والسؤال يكشفان قوة الهوية الوطنية.
"مدفع رمضان" ثمرة جهد واضح من الفريق الفني والمعاونين لضبط عملية التصوير الحي وسط الزحام، لا يقل عن جهد فريق التصوير، وكلها مزايا تحسب للبرنامج في نسخته الأولى وتشجع على استمراره وتطويره، كأن تضاف فقرة ـ مثلًا ـ تخصص للشباب لتشجيعهم على بدء مشارع إنتاجية قليلة التكلفة، بدلًا من الاكتفاء بالأحلام الكلاسيكية للبسطاء مثل توفير نفقات زواج أو تكاليف الحج والعمرة.