3 ديسمبر 2003: "تلفزيون الواقع" يُهيمن على الشاشة

إنّ الطفرة المدوية لبرامج تلفزيون الواقع في الخمس والعشرين عاماً الأخيرة مثلت نقطة تحول من الاكتفاء بمعادلة "أنا لست هنا لتكوين صداقات، أنا هنا للفوز" في برمجة الواقع التنافسية، إلى أسلوب "الواقع غير المفلتر" في خصوصيات المشاهير والناس "العاديين" على حد سواء.
قد يظن كثيرون أن برامج تلفزيون الواقع حديثة بعض الشيء، بسبب رواجها الواسع في الألفية الجديدة من جهة، وربطها بمفهوم "الهراء" السائد كآفة اجتماعية وفق الفيلسوف الأميركي هاري فرانكفورت، الذي عرّفه بأنه "عمل تزييف متعمّد"، غير الكذب أو الخطأ. لكن لهذا اللون في صناعة الترفيه جذور من أقدم أنواع المحتوى على الشاشة الصغيرة، تعود إلى "الكاميرا الخفية" التي بدأت في عام 1948.
في 3 كانون الأول (ديسمبر) 2003، بدأ عرض "الحياة البسيطة" The Simple Life لأول مرة على قناة Fox ، من بطولة اثنتين من مشاهير هوليوود ومن الأكثر إثارة للجدل في ذلك الوقت: باريس هيلتون ونيكول ريتشي. شكّل البرنامج الحالة التمهيدية لـ"تلفزيون الواقع" في اتخاذ المسافة اللازمة من تقديم المسابقات التي تعتمد على الإقصاء، سواء في نمط المواهب أو المواعدة أو النجاة بما يرافقها من دراما وتعلّق واعتياد ومنافسة وانحياز، إلى عرض خصوصيات المشاهير خارج حياتهم النموذجية. فالجميع يريد أن يعرف كل شيء عنهم. وبالفعل، شاهد الجمهور بكثافة مواسم البرنامج حتى عام 2007، حين تخلت هيلتون وريتشي عن الحياة الفاخرة، للعمل خادمتين في معسكرات صيفية، إضافة إلى أشغال أخرى، وخصوصيات كثيرة.
استمر تلفزيون الواقع بالانغماس أكثر في الـ"الشخصية والخصوصية" مع تقدم السنوات، مع التركيز على السرد الشخصي على حساب المسابقات، على غرار برامج مثل "العالم الحقيقي"The Real World و"مواكبة آل كارداشيان"Keeping Up with the Kardashians، فذهب المشاهدون أبعد إلى ما وراء كواليس حياة أشخاص حقيقيين، ما أدى إلى تقديم مستوى جديد من الألفة والقدرة على التواصل، رفع منها لاحقاً صعود منصات البث الإلكتروني مثل Netflix وHulu، وإسهامها في إنتاج محتوى واقعي أصلي، ما أدى إلى تلوين هذا النوع بشكل أكبر. وهي بطبيعة الحال، مهيأة للتطور المستمر مع تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز، حيث قد يستكشف المشاهد صيغاً أكثر تفاعلية.
تلفزيون الواقع يغير المشهد عالمياً
ولا شك في أن برامج تلفزيون الواقع، في رحلة تطورها، غيرت بشكل جذري مشهدية المشاهير والفن والثقافة، وحتى السياسة والسلطة والمال، وغير ذلك.
على صعيد المال، جعلت العديد من الناس أثرياء للغاية، إذ بلغت ثروة كيم كارداشيان الصافية 1,8 مليار دولار أميركي، في عامل ربما سهّل لها الكثير في فتح أبواب البيت الأبيض لها مراراً للحديث في أكثر من قضية عامة!
ومن جهة أخرى، اخترق نجوم تلفزيون الواقع كل ركن من أركان صناعة الترفيه، من هاري ستايلز، وكيلي كلاركسون، وكاردي بي في قوائم أغاني البوب (ظهروا في The X Factor وAmerican Idol وLove & Hip Hop: New York على التوالي) إلى جينيفر هدسون، ولافيرن كوكس، وإيما ستون في هوليوود (ظهرن لأول مرة في Idol وI Want to Work for Diddy وVH1's In Search of the Partridge Family ).
وبدأت أريانا ديبوس، الممثلة الحائزة على جائزة الأوسكار عن أفضل ممثلة مساعدة في West Side Story ، مسيرتها المهنية إلى برودواي بعد فترة من عملها في So You Think You Can Dance ، بينما أطلق Project Runway كريستيان سيريانو إلى طبقة الموضة العليا.
على الصعيد العربي، لا يمكن الساحة الفنية تجاهل فنانين أمثال ملحم زين وديانا كرزون ورويدا عطية وسعود أبو سلطان وهشام الهويش ومحمد عطية وكارمن سليمان ودنيا بطمة ومحمد عساف وحازم شريف وجوزيف عطية وشذى حسون وناصيف زيتون... فجميعهم حصدوا شهرتهم من برامج "أراب أيدول" و"ستار أكاديمي"...، أي من برامج الواقع.
ترامب والمتدرب
للتوضيح أكثر على صعيد السلطة، ساهم تلفزيون الواقع بشكل فعال في اختيار الأميركيين رئيسهم الخامس والأربعين. ففي مقابلة أجريت في عام 2016، والتي سلّط الناقد جيمس بونيوزيك الضوء عليها في كتابه "جمهور واحد: ترامب والتلفزيون وتفتيت أميركا"، أوضح أن برنامج "المتدرب The Apprentice "جعل دونالد ترامب يبدو جيداً، ويبدو ثرياً وشرعياً، لقد نجح الأمر. وجلب ترامب، نجم الواقع المتميز، والصراع والفوضى والإذلال العام"، إلى البيت الأبيض، علماً أن البرنامج قام على متسابقين يتنافسون للعمل لدى الملياردير الأميركي دونالد ترامب. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الأخير، اختار مارك بورنيت منتج ومبتكر The Apprentice، ليكون مبعوثاً خاصاً لإدارته الجديدة إلى المملكة المتحدة.
لكن، ليست جميع الأخبار الواردة من تلفزيون الواقع سعيدة كما كانت الحال بالنسبة لترامب، فهو أفسح المجال لنجومه للعب دور مركزي في المناقشات الاجتماعية كالقيم والمفاهيم، أكثر من الأخصائيين في هذه المجالات أو الوسائل الإعلامية المهنية، ما جعل جيل الألفية وجيل زي يتوقعون رؤية هوياتهم وقيمهم وأنفسهم وخياراتهم، ممثلة في أبطال تلفزيون الواقع الذي ساعد في تطبيع القسوة والعدوانية والسطحية وعدم الولاء، وكافأ الأشخاص الذين يحملون هذه السمات.
تقول عالمة الاجتماع دانييل ج. ليندمان في كتابها الأخير True Story: What Reality TV Says About Us: "على الرغم من شخصياته المتطرفة ومقدماته الغريبة، فإن تلفزيون الواقع يعكس مدى تراجعنا حقاً"، مشيرة إلى التأثير العميق الذي أحدثه "هؤلاء الحمقى الساحرون، والنرجسيون الخبيثون، والمواقف الغريبة التي يختارون العيش فيها باستمرار على عالمنا". يُضاف إلى ذلك أن برامج تلفزيون الواقع لا تزال تحرر بأسلوب يعزز الصور النمطية، من الشقراء الفارغة إلى الشخص الأسمر الغاضب، مع فكرة أن "النساء مجرد ثرثرات تافهات"، مع الاحتفال بالاستهلاك المفرط وتصوير الثروة الفاحشة على أنها غاية في حد ذاتها.