بين الكيك والبارود… محمد يوثّق ذاكرة لبنان بالعطر

لم أستوعب ما قاله لي بائع القهوة عندما كان يحدثني عن افتتاح محل للعطارة يحاكي ذكريات الإنسان. للوهلة، ربطت جملته بجملة أحلام مستغانمي في كتابها "عابر سرير" عندما قالت: “أي علم هذا الذي لم يستطع حتى الآن أن يضع أصوات من نحبّ في أقراص، أو زجاجة دواء نتناولها سراً؟”.
لا أعلم ما الذي جعلني أفكر في هذه الجملة، لكنها صبّت في عقلي تلقائياً قبل أن أقابل صاحب الفكرة نفسه.
ذهبت وأفكاري مبعثرة. كان اسم المحل "Aroma Archive" أي "أرشيف الروائح"، الأقرب للمعنى الحرفي. استقبلني محمد بابتسامة متحمسة وقال قبل أن أسأله: "نعم، لستُ محلاً للعطور، أنا مختلف عن غيري. فهل لديكِ ذكرى خاصة تريدين أن تضعيها في قنينة عطر؟".
كان الديكور الداخلي للمحل مختلفاً، ليس عطوراً معروضة فحسب، بل كان هناك "حائط الأرشيف"، وفي كل مربع قارورة، خلفها صورة وتحتها اسم. حينها كسر محمد سكوتي قائلاً:"لكل منّا رائحة تذكره بشيء، أليس كذلك؟ لذلك فكرتي هي أن أصنع الروائح، وبالأخص تلك التي تعيدنا إلى الماضي، إلى طفولتنا، أو حتى إلى أماكن عشناها".
مدّ يده إلى إحدى القوارير ورشّها على ورقة ومررها لي، وكانت الصدمة: وكأن شريط الزمن رجع للخلف، فاسترجعت ذاكرة الكيك الذي كانت تصنعه جدتي، الأصفر اللون، برائحة الليمون والفانيلا. ابتسمت لأنه بالفعل أمر لا يُصدّق، حتى أنني شَمَمتُ رائحة البيض الناتج من الخفق. كيف لي أن أنسى هذه الرائحة التي كانت جزءاً من طفولتي وفرحتي؟
لم تتوقف التجربة عند هذه الرائحة، لكن كل ما أستطيع قوله أن الفكرة استحوذت على تفكيري. فكرت حينها: إذا استطعنا أن نصنع رائحة الماضي، فربما اقتربنا من الرجوع إلى الزمن.
في هذه الأثناء، وبينما كان عقلي يأخذ ويجيب، أكمل محمد مهمته إلى الماضي: من كيك الجدة إلى رائحة مبراة الأقلام في أيام المدرسة، حتى الترويقة اللبنانية وعبق الرائحة الصباحية، ومن ذاكرة اللبنانيين استخلص أيضاً رائحة البارود التي لازمتنا وتلازمنا إلى يومنا هذا، هذه الرائحة التي أعطتني القشعريرة وذكريات أليمة.
بدأت الفكرة مع محمد عام 2020 عندما كان يعمل صيدلياً، وحينها كانت أزمة الأدوية في ذروتها. شعر أنه غير قادر على المساعدة، خاصة وهو يرى حاجة العالم، ففكر بعدها مع زوجته إيرينا أنه يجب عليه العمل على مشروع خاص ومميز في العالم، لا يشبه أحداً لكنه يلامس الشارع اللبناني أيضاً.
تحويل الرائحة إلى ذكرى له وجوه عديدة. يشرح محمد أنها عبارة عن تركيبات ومكونات عديدة تعود إلى الشخص الذي يشرح لنا الذكرى، وحسب أحاسيسه. وتحدث عن أكثر ما لمسه أثناء التحضير: كيكة الجدة التي أعادته إلى الماضي عندما كان مقيماً في الخارج.
الرائحة هي من الأمور التي تؤثر على الذاكرة، لأن حاسة الشم تمرّ عبر جهاز معيّن في جسدنا يُسمّى Limbic System، أي الجزء المسؤول عن العواطف والذاكرة والدوافع.
يكمل محمد: "أكثر تحدٍّ يمكن أن أواجهه أثناء العمل على رائحة هو عندما يطلب أحدهم تحويل ذكريات حزينة أو رائحة شخص فقدناه، فهي تحتاج إلى مراعاة كبيرة. أنا أساعد الناس بحاسة الشم والمخيّلة".
ما يحاول أن يوصله محمد أن الـ perfume هو فنّ أكثر من مجرد دعاية، وهذا ما عمل عليه في الأرشيف اللبناني، الذي بنى من خلاله حوالي 30 رائحة تستحضر الذاكرة اللبنانية. ولن يتوقف هنا، فحتى للشخصيات رائحة أيضاً، مثل مواعدة الشخص النرجسي. هذا ما أثار إعجابي، كون الشخصية النرجسية اليوم هي حديث العالم!
يريد محمد أيضاً أن يضع لبنان على خريطة عالم الـ perfume كما هو موجود اليوم في عالم الموضة.
الرائحة ليست عبيراً عابراً، بل مفاتيح خفيّة للذاكرة. قد تعيدك إلى حضن جدّةٍ لم تعد،أو إلى صباحاتٍ كانت أخفّ وزناً من اليوم، وقد تفتح أبواباً حاولنا طويلاً أن نغلقها. إنها ليست مجرد عطر، إنها أرشيفٌ لزمنٍ نسيَنا…فنُعيد نحن كتابته من جديد، في قارورة صغيرة.