حمية جديدة يلتفت إليها البعض وتبدو أصعب من أي حمية غذائية تقليدية: الابتعاد عن الهاتف. فالهاتف بات أشبه بعضو من أعضاء الجسد، لا يمكن الاستغناء عنه بسهولة. ومع ذلك، هناك من يحاول خوض تجربة ما يُعرف بالـ"حمية الرقمية" (Digital Diet).

أماني كانت من بين هؤلاء. قررت أن تفرض على نفسها قوانين صارمة، وشاركت الفكرة مع أصدقائها، محددة مدة 21 يوماً كتجربة انقطاع عن الهاتف، كأنها معاهدة دولية لا مجال لخرقها. بدأت الحمية بحماسة، ووصفت الأيام الأولى بأنها "تحدٍ حقيقي". لكنها تعترف لـ"النهار": "رغم صرامة قراراتي، كنت أعلم في داخلي أنني أستطيع العودة للهاتف في أي لحظة... وهذا ما حصل فعلاً بعد ثلاثة أيام فقط، من دون أي شعور بالذنب".

لا يمكن لوم أماني، فهي ليست حالة استثنائية. الواقع أن الانفصال عن العالم الرقمي لم يعد سهلاً، إذ أصبح الهاتف جزءاً من حياتنا اليومية ومن شخصياتنا. وتشير دراسات حديثة إلى أن المستخدم العادي يفحص هاتفه بمعدل يصل إلى 96 مرة في اليوم، أي مرة كل عشر دقائق تقريباً، ما يجعل أي محاولة للابتعاد عنه شديدة الصعوبة، ويُفسّر سبب فشل الكثيرين في الحفاظ على "حمية رقمية" طويلة الأمد.

 

محاولة التحرر من قبضة الهاتف الذكي (الذكاء الاصطناعي)

تقول راوية عيتاني، المتخصّصة في صورة العلاقة مع الذات، إننا نعيش اليوم في زمن "شيء ما يسرقنا من أنفسنا من دون أن نشعر". وتضيف: "مواقع التواصل لم تعد وسيلة تواصل فحسب، بل تحوّلت إلى مساحة مقارنة، استنزاف، وإعادة برمجة لعقلنا على مقاييس ليست لنا. كل صورة تدخل دماغك، كل "لايك" يلمس لا وعيك، وكل "سكول" يحفر أثراً صغيراً في صورتك عن نفسك".

وتوضح أن هذا ما يفسر انتشار مصطلحات مثل Mental Detox أو Digital Diet: "هو قرار واعٍ نفلتر فيه الأصوات الخارجية ونستعيد القدرة على سماع صوتنا الداخلي. ليس حرماناً من السوشيال ميديا، بل إعادة توازن. لأن الحقيقة أن كل صورة وكل "لايك" وكل "سكول" يبرمج دماغنا بشكل معيّن ويؤثر على صورتنا الذاتية من دون أن ندرك. والنتيجة؟ مقارنة مستمرة، ضغط داخلي، وإحساس متزايد بأننا لسنا كافين".

لكن التحدي لا يقتصر على الوقت المهدور. فبحسب مراجعة علمية شملت أكثر من مليون مشارك (Social media use, mental health and sleep: A systematic review with meta-analyses)، هناك ارتباط واضح بين الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي وزيادة مستويات القلق والاكتئاب، إضافةً إلى اضطرابات النوم. الأمر لا يتعلق بالسهر لساعات متأخرة أمام الشاشة فحسب، بل أيضاً بما يُعرف بـ"الضغط المعلوماتي"، أي تدفّق الإشعارات والصور والتحديثات، الذي يترك الدماغ في حالة استنفار دائم ويؤثر سلباً في نوعية النوم.

وتذهب دراسة حديثة نُشرت في مجلة BMC Public Health أبعد من ذلك، إذ تشير إلى أن الإفراط في التواصل الافتراضي يمكن أن يقود مباشرة إلى الأرق، حتى عند من لا يُصنّفون مدمنين على الإنترنت. والنتيجة واحدة: تراجع جودة النوم، شعور متزايد بالتعب، وتدهور في التوازن النفسي على المدى الطويل.
أما عن كيفية البدء، فتشير عيتاني إلى أن الجسم والعقل يرسلان إشارات واضحة: "نبدأ تلقائياً بالبحث عن Mental Detox عندما يظهر الضيق النفسي بعد ساعات طويلة على مواقع التواصل.

فجأة نكتشف أن هذه الساعات لم تكن مجرد تسلية، بل هروب من فراغ داخلي، من مهمات صعبة نؤجلها، أو مجرد قتل للوقت".

لكنها تلفت إلى أن كل دقيقة نخفف فيها استخدامنا لهذه المنصات تفتح أمامنا باباً جديداً: "يمكننا استثمار الوقت لنؤسس شيئاً جديداً، نشاهد محاضرات، نمارس نشاطات، أو نعيد ترتيب أولويات مؤجلة. والأجمل أن نجد وقتاً نتواصل فيه مع أنفسنا، نسمع صوتنا الداخلي ونسأل: ماذا أريد فعلاً؟".

قد لا تكون هذه الخطوة سهلة، وقد يواجه المرء ما واجهته أماني من تراجع سريع أمام قوة الهاتف وإغراءاته. لكن التجربة في ذاتها تبقى محاولة جديرة بالاهتمام، ورسالة إلى الذات بأن التوقف ممكن ولو للحظات. في النهاية، لا أحد ينجح من المحاولة الأولى دائماً، لكن كل محاولة تمنحنا وعياً أكبر بخياراتنا، وفرصة لإعادة التوازن بين عالمنا الرقمي وذواتنا الحقيقية.