جائحة الحمّى القلاعيّة تفتك بقطاع الأبقار وتظهر وهماً عضوياً من أعلى الهرم حتى قاعدته
على مدى نحو ساعتين، استمع وزير الزراعة نزار هاني إلى سيل من الغضب والوجع واللوم الذي صبّه مربو الأبقار ومنتجو الحليب الطازج المنكوبون بما دفعوه "من دم قلبنا" جرّاء جائحة الحمى القلاعية الوبائية "سات وان" التي تجتاح دولاً عدة وتضرب قطعان المواشي الحيّة، لا سيما الأبقار، ولا تقلّ ضرراً وخسائر على القطاع الحيواني عما كانت عليه جائحة كوفيد للبشر. وقد عقد اللقاء في مركز الزراعة في بلدة غزة في البقاع الغربي التي أضحت رمزاً لنكبة القطاع، وحضره رؤساء الدوائر المعنية بالقطاع والدوائر الإقليمية في البقاع.
وبحسب عضو المجلس الأعلى للزراعة خير الجراح، فإن "الوضع صعب جداً، والخسائر كبيرة جداً، منها المباشر ومنها غير المباشر والطويل الأمد"، وبأن "آثار الجائحة تطال الثروة الحيوانية ومربي الأبقار والأمن الغذائي المرتبط بهم". ذلك أن الوباء أصاب ما بين 60 إلى 70 في المئة من القطاع"، إلى جانب اشتداد الحالات من إصابات في الفم والحافر وحالات متوسطة بالضرع إلى "الكارثة الكبرى بالتهاب الضرع الفيروسي التي أدت وتؤدي إلى تلف جزء كبير من القطيع، فيما كلفة استبدال البقرة تتجاوز 3 آلاف دولار، وتحتاج ما بين 200 و300 دولار إضافية لكي تبدأ بإنتاج الحليب. وتتمثل الخسارة أيضاً بتراجع إنتاج الحليب جرّاء إلإصابات ما بين 50 و60 في المئة".
نكبة اختصرتها صرخة مزارع، كان ينتفض غضباً وهو يروي "لديّ 254 بقرة حلوباً بكيرية أقعدت أرضاً، إستوردتها في 31 تموز الفائت، اخترب بيتي، خسارتي 400 ألف دولار، انخفض إنتاج مزرعتي من 4 أطنانٍ حليباً إلى 800 كيلوغرام، مع كل صباح أدفع ألف دولار ثمن دواء. من المسؤول؟".
وفوق كل هذه النكبة، شكا مزارعو الحليب الطازج من أن المعامل خفّضت سعر الحليب بحيث إن "سعر زجاجة المياه المعبأة أغلى من سعر كيلوغرام الحليب الطازج". فيما أفاد مزارع نجت مزرعته لغاية الآن من الوباء بأن إنتاجه من الحليب الطازج زاد طناً لكنه غير قادر على تصريفه.
ما لم يكن المربون المنكوبون قادرين على استيعابه هو واقع أن "الوباء ظهر وأعلن عنه في العالم في حزيران الفائت، وبدأ ظهوره في المزارع ببلدة غزة في تشرين الأول الفائت"، ويسألون "أين كانت وزارة الزراعة ولماذا لم تتخذ خطوات لحالة طوارئ قبل أن تنفجر الأزمة؟".
وهذا الغضب ينسحب على سؤال عن المصدر الذي جاء منه الوباء: هل هي شحنة استُقدمت من مصر حتى بعد إعلان الأخيرة عن ظهور الوباء عندها؟ ولم تقنعهم الإجابات التي قدمها فريق الوزارة لجهة الإجراءات التي تتخذها مصر التي تلعب دوراً بالحجر البيطري للشحنات القادمة من أفريقيا قبل أن تصل إلى لبنان، ولا تفنيد البروتوكول المعمول به معها في هذا السياق. وزاد استهجانهم عندما علموا أن فحص الـ (Non-Structural Proteins – NSP) الذي يكشف ما إذا كانت رؤوس الماشية حاملة للفيروس غير متوافر، وبقي اللوم قائماً "لماذا جئنا بالأبقار من مصر، كان يمكن ألا ننام بين القبور ولا نشاهد منامات وحشة".
وفيما ينحو الظن في المقابل لدى الوزارة، على ما يتبين من كلام الوزير، بأن أبقاراً مهرّبة من سوريا هي مصدر الوباء، وعليه رفعت الوزارة لائحة بأسماء المهرّبين إلى كل من الجيش اللبناني والنيابة العامة. دعا أحد المربين إلى تشديد الرقابة على حاجزي شدرا في عكار، ذلك أن الأعداد الكبرى تأتي عبر وادي خالد، وعلى حاجز الجيش في حربتا في البقاع الشمالي.
حال من انعدام الثقة بمؤسسات الدولة وأجهزتها الرقابية على الثروة الحيوانية والنباتية ساد الاجتماع، إذ حظي اتهام أحد المربين أن "خراب القطاع يبدأ من مرفأ بيروت"، مفنداً أمثلة عن دخول أعلاف غير مطابقة، وكذلك دعوته إلى تشكيلات إدارية في وزارة الزراعة "لانعدام الثقة بالمديرية العامة والمديريات المعنية بالثروة الحيوانية والاستيراد والتصدير نتيجة سنوات من التجربة".

إلا أنه بعد هذا السيل من الغضب واللوم، أعلن وزير الزراعة "صلاح دين الأيوبي" الذي ينتظر منه مربو الأبقار انتشالهم من المصيبة التي ألمّت بهم.
أما الوزير هاني فقد اختتم اللقاء كما بدأه بالتأكيد أن وزارة الزراعة هي المرجعية للثروة الحيوانية والنباتية، غير متهرّبة من المسؤوليات. مشيراً إلى أن "هذا الوباء غير مسبوق منذ أكثر من ثلاثة عقود"، وبأن "الوزارة قامت بالآلية المعتمدة من قبل المنظمات الدولية المرتبطة بالصحة الحيوانية وإدارة الثروة الحيوانية. قمنا بالفحوص المحلية وأرسلنا العينات للتأكد من المتحوّر، تعاونّا مع نقابة الأطباء البيطريين لنستورد اللقاحات بأسرع وقت ممكن، وقمنا بتسهيلات لاستيرادها في ظل الضغط على الشركات التي تنتج هذه اللقاحات لكون الجائحة منتشرة في عشرات الدول". ليلفت في المقابل إلى أن "المشكلة وقعت وأن الأسهل هو أن نختلف حولها ولكن الأجدى أن نتعاون"، وعددّ 5 نقاط خرج بها من الاجتماع لمتابعتها من خلال اجتماعات مفتوحة:
أولاها احتواء الوباء والإدارة الصحيحة لتقليص الأضرار "وهي مهمة كل المربين وكل شريك بهذا القطاع". مشدداً على اتخاذ الإجراءات الوقائية في مواجهة "وباء لا يقلّ عن وباء كورونا"، ومنها "الامتناع عن نقل رؤوس الماشية، والتنقل بين المزارع من دون الوقاية لجهة اللباس والكفوف"... وكانت وزارة الزراعة قد أصدرت بياناً نصّت فيه على مجموعة تعليمات وإجراءات للحد من انتشار الوباء تشمل البلديات، المستوردين، نقابات النقل وسائقي الشاحنات، ليبقى السؤال: من الذي سيلزم أو يراقب تنفيذ هذه التعليمات والإجراءات؟
النقطة الثانية تتعلق باللقاحات، وفي هذا السياق قال الوزير هاني إن "الوزارة تعمل بكل جهد، ومن دون أي تأخير، لتأمين اللقاحات المتوفرة "سات وان" من مصادر ثلاثة: روسي، أرجنتيني وفرنسي". وتوقّع بدء استلام الدفعة الأولى من 150 ألف لقاح منتصف الأسبوع المقبل، على أن يستلم لبنان في منتصف كانون الثاني 400 ألف لقاح. آملاً أن تكون نتائج فحوص العينات التي أرسلتها الوزارة إلى مختبرات مرجعية معتمدة من قبل المنظمة العالمية لصحة الحيوان ومنظمة الأغذية والزراعة قد صدرت في حينها، "وأن يكون اللقاح المستورد هو الأقرب إلى العترة التي تجتاج القطاع في لبنان". يذكر في هذا المجال، وفق ما شرح رؤساء دوائر في الوزارة، أن مناقصة استيراد لقاح "سات وان" كانت قد عقدت في آب الفائت، قبل ظهور الوباء في لبنان، لكن المصانع أعطت الأولوية للبلدان حيث انتشر المرض.
النقطة الثالثة تناولت موضوع الرقابة والاستيراد، وفي هذا الإطار قال الوزير "سنقوم بكل الإجراءات اللازمة لنوجد توازناً، حتى لا يبدأ الصراخ من ارتفاع الأسعار". وكان المربون قد طالبوا بالحماية، وكان ردّ الوزير أنه باشر "بمقاربة مختلفة للقطاع الزراعي قائمة على استراتيجية تنطلق من الحماية من خلال دعم القطاعات لزيادة إمكانياتها"، شارحاً أنه لتطبيق الحماية "نحتاج أن نثبت للإدارات الأخرى المسؤولة عن المستهلك والأسعار بأن هذا القطاع قادر على أن يلبي الحاجات".
النقطة الرابعة هي التهريب، وعلى الرغم من إشارته إلى أنها ليست مهمة المزارعين ولا الوزارة، لكنه دعا إلى التعاون من خلال التبليغ عن المهربين لما لتهريب المواشي الحيّة من أضرار على القطاع.
أما النقطة الخامسة والأخيرة فتتعلق بالتعويض عن الخسائر. وقد رفض الوزير هاني أن يعد بما لا يمكن أن يفي به، لكنه دعا في المقابل إلى توثيق الخسائر بالتعاون مع مصالح الزراعة الإقليمية "ليكون بين يدينا مستندات بقيمة خسائر القطاع، قد تفيدنا مع الجهات المانحة في دعم القطاع المنكوب".
وكان المربون على لسان خير المرّ قد طالبوا بإقرار المطلب المزمن بإنشاء "الصندوق الوطني للثروة الحيوانية" وتمويله عبر ضرائب على حليب بودرة، العجول، اللحوم المثلجة، رؤوس الماشية، الأدوية البيطرية والأعلاف المستوردة، بحيث يمكن من خلاله التعويض عن الخسائر التي قد تلحق بالقطاع كالحالة الوبائية الراهنة.
في المحصلة، فإن الوباء أظهر تشرذم قطاع تربية الأبقار وإنتاج الحليب الطازج وضعف التنظيم والإمكانيات والإرادة على مختلف المستويات من أعلى الهرم حتى قاعدته، ومشكلات كثيرة آثر وزير الزراعة تسميتها بـ"التحديات"، وهي مشكلات مزمنة تقلّب عليها وزراء وعهود أو كما قال أحد المربين "نحن فشلنا كمزارعين في أن نكون منظمين، نحن فاشلون لأن الهرم لم ينظمنا، والدنا (قاصداً الدولة) لم يعلمنا، لم يربينا".
نبض