منحى مقلق بعد 15 عاماً من النجاح: 48% نسبة ارتفاع وفيات الرضّع وحديثي الولادة في لبنان

مجتمع 20-11-2025 | 10:36

منحى مقلق بعد 15 عاماً من النجاح: 48% نسبة ارتفاع وفيات الرضّع وحديثي الولادة في لبنان

خلف كل قصّة تفاصيل لم تُروَ بعد كفيلة بأن تعكس تراجعاً صحياً لا تُرى علاماته بسهولة لكن أثره عميق وممتدّ.
منحى مقلق بعد 15 عاماً من النجاح: 48% نسبة ارتفاع وفيات الرضّع وحديثي الولادة في لبنان
نسبة ارتفاع وفيات الرضّع وحديثي الولادة في لبنان. (النهار)
Smaller Bigger

في المناطق النائية والبعيدة، حيث تبقى المأساة مطبوعة خلف جدران المنازل الفقيرة والمهمّشة، تعيش العائلات وجعاً من نوع آخر، فقدان لا يُحكى عنه كثيراً إلا أنه يكشف واقعاً خطيراً وارتفاعاً مقلقاً في معدل وفيات حديثي الولادة في لبنان.

 

خلف كل قصّة تفاصيل لم تُروَ بعد كفيلة بأن تعكس تراجعاً صحياً لا تُرى علاماته بسهولة لكن أثره عميق وممتدّ. فالأزمات المتتالية التي ضربت البلد في السنوات الأخيرة تركت بصمتها على الجميع، غير أنّ وطأتها كانت أشد على الفئة الأكثر هشاشة: الأطفال وحديثي الولادة.

 

تُظهر الأرقام المتوافرة – على محدوديتها – منحى خطيراً بعد سنوات طويلة من التقدّم. فقد ارتفع معدّل وفيات حديثي الولادة من 7.4 لكل ألف ولادة حيّة عام 2015 إلى 11.22 عام 2023، وهو واقع يعادل خسارة عقد كامل من التحسّن في مؤشرات صحة المواليد. وفيما كانت المنطقة تحقق انخفاضاً ملحوظاً في وفيات المواليد بنسبة 28% وعالمياً بنسبة 23%، سجّل لبنان الاتجاه المعاكس، مع زيادة تقارب 48% خلال الفترة نفسها.

 

لبنان، الذي نجح قبل نحو 15 عاماً في خفض معدّلات وفيات الأطفال وحديثي الولادة إلى مستويات متقدّمة جعلته في موقع متقدّم في المنطقة، يجد نفسه اليوم أمام منحى معاكس تماماً. انتكاسة مقلقة تهدّد ما حقّقه من تقدّم، وتضع البلاد في مواجهة تراجع يصعب تجاهله أو التقليل من دلالاته.

هذا الارتفاع لا يأتي من فراغ. ففي المستشفيات الطرفية، يتكرر المشهد: أقسام مكتظة، أجهزة غير كافية، ونقص حاد في الطواقم الطبية المتخصصة.


أتذكر جيداً يوم وصف الدكتور خالد يونس، رئيس قسم طب الأطفال وحديثي الولادة في المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، في إطار مشروع رعاية حديثي الولادة، هذا الواقع بدقة قائلاً: "المستشفيات الطرفية تعيش تحت ضغط تحديات متراكمة: نقص في الكوادر، محدودية في المنافع والتدريب، ضغوط مالية، غياب السياسات الموحّدة، ونقص التجهيزات الأساسية". هذه العوامل مجتمعة تخلق بيئة خطِرة للأطفال حديثي الولادة، وتفتح الباب أمام مخاوف طبية واجتماعية متصاعدة.

 

وما يزيد الأمور سوءاً أنّ العائلات نفسها باتت جزءاً من دائرة العجز، بعدما دفعت الأزمة الاقتصادية الكثيرين إلى تأجيل الرعاية الوقائية أو الامتناع عنها كلياً. 

 

تؤكد سابين عبد الساتر، مسؤولة برنامج صحة الأم وحديثي الولادة في اليونيسف أنّ الأطفال في المناطق الأكثر تهميشاً – من عكار إلى البقاع وبعلبك - الهرمل وصولاً إلى الحدود الجنوبية – هم الأكثر تضرراً. ضعف البنى التحتية، غياب الأطباء المتخصصين، وانقطاع الكهرباء والاتصالات، كلها عوامل تجعل الوصول إلى الرعاية الصحية مسألة شاقة. يضاف إليها ارتفاع كلفة النقل إلى المراكز الصحية، ما يجعل اللقاح أو الفحص البديهي، كالفحص الروتيني أثناء الحمل، مشروعاً محفوفاً بالصعوبات.

وقد أظهرت الدراسات الميدانية أنّ الأطفال في المناطق الطرفية هم الأكثر عرضة لعدم تلقي اللقاحات أو تلقيها بشكل غير مكتمل مقارنة بأقرانهم في المدن.

وفي ظل غياب البيانات الدقيقة حول التوزيع الجغرافي للوفيات، يبدو المشهد أكثر تعقيداً. وتشرح عبد الساتر أنه يصعب التحديد، إذ إن معظم حالات حديثي الولادة المعقدة وبالتالي الأكثر عرضة للوفاة تُحوَّل إلى بيروت لأنها تستدعي تدخلات متخصّصة، لكن ضعف الإمكانيات المتخصّصة والسرعة في تحويل الحالات يؤثران على قدرة الاستجابة المناسبة لإنقاذ حياة الأطفال. وبالتالي، فإن جوهر المشكلة لا يتصل بضعف استعداد المستشفيات الطرفية، بل بنقص مواردها البشرية والتقنية والمالية.

كذلك تعد مضاعفات الولادة المبكرة السبب الرئيسي لوفاة الأطفال. ففي لبنان، تُوفي 1045 طفلاً من حديثي الولادة عام 2023، قبل بلوغهم عمر الـ28 يوماً. معظم هذه الوفيات هي من الأطفال الخدّج الذين يولدون قبل الأسبوع السابع والثلاثين من الحمل ويكونون الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض الخطرة أو حتى الوفاة خلال فترة الأسابيع الأربعة الأولى من حياتهم، بسبب ضعف التنفس وصعوبة التغذية وسوء تنظيم درجة حرارة الجسم وارتفاع أخطار الإصابة بالأمراض.

ومع إدراك حجم الأزمة، انطلقت مبادرة "حياة" – إحدى أهم مبادرات "اليونيسف" بالشراكة مع وزارة الصحة – لإعادة بناء منظومة الرعاية حول حديثي الولادة. تعمل المبادرة على تطوير بروتوكولات وطنية موحّدة، وإضفاء طابع تنظيمي على الإحالات، وتعزيز إشراك الأسرة في عملية الرعاية. وتركز على دعم المستشفيات الحكومية بالمعدات والتدريب، وتأسيس مساحات للرعاية التنموية، ودمج خدمات حماية الطفل في الرعاية الطبية.


تحدّيات صعبة خلقت فجوات واضحة

تتحدث رئيسة اللجنة الوطنية لرعاية حديثي الولادة والخدّج البروفيسورة لمى شرف الدين عن النواقص في منظومة الرصد المنهجي خلال السنوات العشر الماضية لتوثيق أسباب وفاة المواليد الجدد والخدج في لبنان، أي الأطفال حتى عمر 28 يوماً. ومع ذلك، تبدو الأسباب الأساسية معروفة جيداً: الولادة المبكرة تتصدر المشهد بنسبة تتراوح بين 40 و42 في المئة من مجمل وفيات حديثي الولادة، يليها نقص الأوكسجين عند الولادة، ثم الالتهابات الحادة، إضافة إلى أسباب أخرى مثل النزف والتشوّهات الخلقية.

وأثّرت الأزمات المتتالية مباشرة على هذا القطاع، إذ شهد لبنان بين 2010 و2023 ارتفاعاً بلغ 48% في وفيات حديثي الولادة والخدّج، مع ازدياد ملحوظ بين 2019 و2024.

وتواجه المنظومة الصحية في لبنان، منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية حتى اليوم، سلسلة تحديات ثقيلة خلقت فجوات واضحة على أكثر من مستوى. فقد تأثرت القوى العاملة الطبية وتراجعت استمرارية الرعاية المخصّصة لحديثي الولادة والحوامل، وبات الوصول إلى الخدمات الصحية أكثر تعقيداً، سواء بسبب العوائق الجغرافية التي تحول دون بلوغ المراكز والمستشفيات، أو الكلفة المادية التي أصبحت عبئاً لا تحتمله العديد من العائلات.

الولادات المبكرة الخطر الأكبر

وسط أزمة صحية مستمرة وأزمة اقتصادية خانقة، يعكس حديث رئيسة الجمعية اللبنانية لطب الأطفال الدكتورة منى علامة واقعاً خطيراً يهدد حياة حديثي الولادة في لبنان. تقول إن "الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2019 لم تترك الأطفال اللبنانيين بمنأى عن هذه المخاطر، فالأمهات يعجزن عن الحصول على متابعة صحية مناسبة طوال الحمل، ما زاد من الولادات المبكرة التي تعد السبب الأول لوفيات حديثي الولادة".

بالتوازي يعاني اللاجئون السوريون منذ سنوات من معدلات مرتفعة في المرض والوفيات بين المواليد الجدد، بسبب نقص الرعاية قبل الولادة وتأثير الفقر والظروف الاجتماعية على التغذية والصحة العامة. 


وتكشف علامة عن ثغرة أكبر تتعلق بالكادر الطبي: عشرات الأطباء والممرضين ذوي الخبرة غادروا لبنان، تاركين خلفهم فجوة كبيرة يستحيل ملؤها بالسرعة المطلوبة. ونتيجة ذلك، بات الأطفال الخدّج كُثراً بين أيدي كادر أقل خبرة، في وقت تتطلب فيه هذه الحالات رعاية دقيقة جداً.


إلى جانب ذلك، ترتفع أخطار وفاة المواليد الخدّج في ظل الغلاء الهائل أو انقطاع الأدوية الأساسية في وحدات العناية، ومع فقدان هذه العلاجات، يصبح الأطفال عرضة للمضاعفات والوفاة.

خطوات عملية لمستقبل أفضل

وانطلاقاً من خطورة الوضع، بدأت الجهات المعنية التحرك لمعالجة الثغرات كما توضح شرف الدين، إذ أنشأت وزارة الصحة قبل عامين لجنة وطنية لتحسين رعاية حديثي الولادة والخدّج، وتعمل اليوم بالتعاون مع اليونيسف على عدة برامج منها برنامج تدريب منهجي للعاملين في العناية الفائقة لحديثي الولادة والخدّج في عدد من المستشفيات الحكومية، وبرنامج وطني لتدريب المدرّبين ومقدّمي الرعاية على إنعاش الوليد والرعاية التنموية، بالتوازي مع خطة سريعة لتعزيز رعاية الأم والطفل منذ الحمل.

وفي ما يخص الحالات الصحية الأكثر شيوعاً، تشير شرف الدين إلى أن التشوّهات الخلقية في القلب من بين المشكلات المسجّلة، لكن الحسم يحتاج إلى رصد منهجي شامل. وتلفت إلى أنّ عدداً كبيراً من الأطفال يُحرمون من الرعاية الضرورية بسبب العوائق المادية واللوجستية، ومنها صعوبة تأمين سيارات نقل متخصصة، ما دفع الوزارة إلى تصنيف المستشفيات القادرة على استقبال هذه الحالات بدقة أكبر. وتعبّر عن أملها بأن تؤدّي هذه الخطوات إلى نتائج فعلية في السنوات المقبلة.


تحسين الرعاية وتذليل العقبات


من نقل الواقع إلى الحلول، تقدم علامة خطة واضحة للتخفيف من الأزمة، ضمن سلسلة خطوات أساسية أهمها: تحسين الرعاية قبل الولادة للحد من الولادات المبكرة، وإنشاء نظام إحالة فعال لنقل الحالات الحرجة من المستشفيات الطرفية إلى مستشفيات كبرى مجهزة، مع تغطية مالية من وزارة الصحة أو الدعم من منظمات غير حكومية، لأن كلفة العلاج في المستشفيات الكبرى تفوق قدرة معظم العائلات. 

وتتضمّن مقترحاتها اعتماد سياسة وطنية تلزم خريجي الطبّ الذين تلقّوا تعليمهم الطبي في الجامعات اللبنانية، بقضاء سنتين في المستشفيات الطرفية كخدمة مجتمعية لتعزيز الكادر في المناطق المحرومة، إضافة إلى تدريب مستمر للطواقم الطبية وتوفير دعم مالي مباشر للأدوية المكلفة التي يحتاج إليها الخدّج في وحدات العناية. 

ورغم حجم العوائق وصعوبة الواقع، ما زالت الجهود المبذولة من الجهات المعنية في القطاع العام ممثلاً بوزارة الصحة بالتعاون مع المنظمات الدولية كاليونيسف، أو في القطاع الخاص، المستشفيات وأطبّاء حديثي الولادة والجمعية اللبنانية لطب الأطفال، تعكس رؤية مشتركة وإرادة واضحة للنهوض برعاية الأطفال حديثي الولادة.

وتشير علامة إلى أنّ المرحلة الأخيرة شهدت خطوات عملية وتعاوناً فعلياً بين الجمعية اللبنانية لطب الأطفال ووزارة الصحة، أبرزها تدريب الطواقم التمريضية في وحدات العناية المركزة لحديثي الولادة والخدّج في المستشفيات الحكومية، بهدف تعزيز الكفاءة وتحسين التعامل مع هذه الحالات الدقيقة، وستثمر هذه الجهود نتائج إيجابية في المستقبل.

ورغم التحديات، يبقى للدعم الإنساني دور لا يمكن تعويضه كما ترى البروفيسورة شرف الدين. فالأطفال الذين يخوضون معركة البقاء يحتاجون إلى وجود والديهم إلى جانبهم داخل غرف العناية المركزة، حيث يشكل حضور العائلة مصدراً للطمأنينة والدفء والحب، ويمنحهم قوة إضافية لمواصلة رحلتهم نحو الشفاء.

    
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

سياسة 11/18/2025 10:10:00 PM
استهداف إسرائيلي في عين الحلوة... وعدد كبير من الضحايا.
سياسة 11/19/2025 1:59:00 PM
مصادر في المتحف توضح في اتصال مع "النهار" تفاصيل صنع التمثال
سياسة 11/19/2025 7:27:00 PM
المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي:  تم تقديم بلاغات بشأن بعض الأهداف الموجودة داخل القرية خلال الأشهر الأخيرة عبر الآلية المخصصة لتنفيذ التفاهمات، لكنها لم تعالَج
مجتمع 11/18/2025 10:59:00 PM
أثناء استكمال المداهمة لمنزل شقيقه المطلوب حسين عباس جعفر، انفجرت عبوة ناسفة كانت مزروعة في بوابة المنزل...