فضيحة "أبو عمر": كيف اخترق الوهم السياسة اللبنانية ولماذا يفرض الصمت نفسه حتى الآن؟

سياسة 25-12-2025 | 17:22

فضيحة "أبو عمر": كيف اخترق الوهم السياسة اللبنانية ولماذا يفرض الصمت نفسه حتى الآن؟

خطورة "أبو عمر" لا تكمن في أنه خدع بعض السياسيين، بل في أنه كشف هشاشة النموذج السياسي اللبناني نفسه...
فضيحة "أبو عمر": كيف اخترق الوهم السياسة اللبنانية ولماذا يفرض الصمت نفسه حتى الآن؟
العلم اللبناني (حسام شبارو).
Smaller Bigger

لم تكن قضية "الشيخ أبو عمر" مجرد حادثة احتيال عابرة في بلد اعتاد الفضائح، بل تحوّلت بسرعة إلى مرآة عاكسة لهشاشة السياسة اللبنانية، ولطريقة تشابك الطموحات المحلية مع أوهام الخارج، حتى بات صوت مجهول على الهاتف قادراً على التأثير في حسابات بعض السياسيين وخياراتهم. فالشخصية، التي قدّمت على أنها شيخ نافذ وقريب من دوائر القرار في المملكة العربية السعودية، وقادرة على فتح أبواب الدعم السياسي والمالي، تبيّن أنها وهمٌ كامل الصنع، أداته رجل لبنانيّ أتقن اللهجة الخليجية، وأحسن إدارة لعبة الإيحاء والنفوذ الافتراضي.

 

ما كُشف حتى الآن من التحقيقات أن "أبو عمر" لم يكن سوى واجهة لصناعة نفوذ وهميّ، اعتمد على الاتصالات الهاتفية ورسائل الوسطاء، من دون أيّ لقاء مباشر، ما سمح له بالحفاظ على هالة الغموض اللازمة لتكريس صدقيته لدى من كانوا يبحثون عن مظلة خارجية أو عن إشارة دعم تعيدهم إلى الواجهة السياسية. في بلد اعتاد أن تصاغ كثير من التوازنات من خارج حدوده، لم يكن مستغرباً أن يمنح هذا الوهم فرصة حقيقية، وأن تتحول المكالمات الهاتفية إلى مادة سياسية قابلة للتداول والتصديق.

 

انكشاف الخدعة لم يأتِ من ضربة واحدة، بل من تراكم شكوك وتساؤلات حول طبيعة الاتصالات، وهوية المتّصل، مع غياب أيّ أثر رسمي له في القنوات الديبلوماسية المعروفة. نقطة التحول جاءت حين تبيّن أن "الشيخ" الذي يتصل من الخارج ليس إلا الصوت نفسه الذي يدير الوساطة في الداخل، وأن اللعبة كلها قائمة على هندسة وهم النفوذ، واستثمار توق السياسي اللبناني إلى الخارج أكثر مما يستثمر في الوقائع.

 

منذ تلك اللحظة، بحسب المعلومات المتوافرة دخل الملف عهدة الأجهزة الأمنية والقضاء، وبدأت التحقيقات تأخذ طابعاً أكثر جديّة، شملت الاستماع إلى الموقوف الرئيسيّ، وتتبع الاتصالات، واستدعاء كلّ من تواصل مع هذه الشخصية، سواء أكان طلباً لدعم أم سعياً إلى دور. لكن ما يسترعي الاهتمام، وربما يكون الأهم سياسياً، هو أن هذا المسار القضائيّ ترافق مع صمت رسميّ واسع، وصدر عن معظم الجهات المعنية تحفّظ واضح عن الإدلاء بأيّ تفاصيل.

 

هذا الصمت ليس صدفة، ولا هو نتيجة تواطؤ بالضرورة، بل يعكس تشابك ثلاثة مستويات حسّاسة دفعة واحدة، القضائي والسياسي والديبلوماسي. على المستوى القضائي، هناك حرص واضح على إبقاء الملف تحت سقف السرية الإجرائية منعاً لتشويه سمعة أشخاص لم تثبت بحقهم أي مسؤولية قانونية بعد، خصوصاً أن مجرّد الاتصال بشخصيةٍ، تبيّن لاحقاً أنها وهمية، لا يرقى حكماً إلى مستوى الجرم. وعلى المستوى السياسي، يُدرك كثيرون أن فتح الأسماء على مصراعيها في الإعلام قد يحوّل الملف إلى أداة تصفية حسابات بين الخصوم، أكثر مما يخدم الحقيقة أو العدالة.

 

صورة تعبيرية (مواقع).
صورة تعبيرية (مواقع).

 

أما على المستوى الديبلوماسي، فالقضية تمسّ مباشرة باسم المملكة العربية السعودية وبفكرة التدخل الخارجي في السياسة اللبنانية، وهو ملف شديد الحساسية لا يراد له أن يستثمر شعبوياً أو يستدرج إلى سجالات إعلامية غير مضبوطة.

 

من هنا يمكن فهم السبب، الذي فضّلت الدولة اللبنانية تبعاً له، ومعها الجهات الخارجية المعنية، إدارة الملف بهدوء خلف الكواليس، عبر القنوات الأمنية والقضائية، بدل تفجيره على المنابر. الصمت هنا ليس إنكاراً، بل إدارة وقت، بانتظار أن تتبلور الصورة كاملة، وأن تتحدد المسؤوليات بدقة، وأن يفصل بين من وقع ضحية خدعة ومن حاول استثمارها أو توظيفها.

 

لكن هذا الصمت نفسه يطرح أسئلة محرجة عن البيئة التي سمحت للخدعة أن تنجح أصلاً. فالقضية لا تكشف فقط عن شخص محتال، بل عن نظام سياسيّ قابل للاختراق عبر الوهم، وعن طبقة سياسية لا تزال تبحث عن شرعيتها في الخارج أكثر مما تستمدّها من الداخل، وعن استعداد بنيويّ لتصديق أيّ نفوذ يقدَّم باسم دولة كبرى أو جهة إقليمية مؤثرة.

 

لهذا، فإن خطورة "أبو عمر" لا تكمن في أنه خدع بعض السياسيين، بل في أنه كشف هشاشة النموذج السياسي اللبناني نفسه، حيث يصبح الهاتف أداة نفوذ، والوعد الخارجي عملة تداول، والسرية بديلاً من الشفافية؛ وهو ما يجعل هذه القضية، مهما انتهت قضائياً، لحظة سياسية كاشفة لا يجوز التعامل معها كحادثة طريفة أو فضيحة عابرة.

 

ربما يفسّر ذلك أيضاً السبب الذي منع أحداً ما من المسارعة إلى إغلاق الملف إعلامياً أو سياسياً، أو تركه لينضج على نار هادئة في القضاء، لأن ما هو مطروح فعلياً ليس فقط من هو "أبو عمر"، بل كيف صار ممكناً أن يكون له هذا الدور أصلاً. والجواب عن هذا السؤال هو ما يجعل القضية أخطر من مجرد عملية نصب، وأقرب إلى تشريح مؤلم لطريقة اشتغال السياسة في لبنان، حيث يمكن للوهم أن ينافس الحقيقة، وللصوت أن ينافس الدولة، وللصمت أن يصبح سياسة بحد ذاته.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 12/23/2025 10:17:00 PM
أحد أبرز القادة العسكريين الذين قادوا مساعي توحيد المؤسسة العسكرية الليبية وعززوا علاقاتها الإقليمية والدولية.
المشرق-العربي 12/24/2025 10:00:00 AM
أراد يسوع بيت لحم بدون حواجز ولا قيود. أرادها مدينة تصدّر السلام من هذه البقعة الجغرافية إلى كل العالم.
المشرق-العربي 12/24/2025 12:33:00 PM
القوة مؤلفة من سيارتين إحداهما من نوع هايلكس والأخرى هامر عسكرية
شمال إفريقيا 12/24/2025 10:42:00 AM
مضى الحداد، الذي ينحدر من مدينة مصراتة ذات الثقل في صنع قرار غرب ليبيا، خلال السنوات الأخيرة عكس التيار، متمسكاً بحلم "توحيد المؤسسة العسكرية".