من بيروت إلى العالم المشرذم... ماذا يريد مؤتمر كارنيغي الثامن؟

اقتصاد وأعمال 17-12-2025 | 19:47

من بيروت إلى العالم المشرذم... ماذا يريد مؤتمر كارنيغي الثامن؟

بعد انقطاع دام عامين، عاد مؤتمر كارنيغي الإقليمي إلى بيروت في دورته الثامنة، جامعاً نخبة من الباحثين وصنّاع القرار لمناقشة تحولات الشرق الأوسط والعالم تحت عنوان "احتواء الشرذمة"، في لحظة إقليمية ودولية شديدة الاضطراب.
من بيروت إلى العالم المشرذم... ماذا يريد مؤتمر كارنيغي الثامن؟
مهى يحيى ووزير الثقافة اللبناني غسان سلامة.
Smaller Bigger

في بيروت، وبعد انقطاع دام عامين، عاد مؤتمر كارنيغي الإقليمي ليُعيد طرح الأسئلة الكبرى نفسها، لكن في زمن مختلف كلياً. المؤتمر الثامن، الذي انعقد في فندق فينيسيا تحت عنوان "احتواء الشرذمة"، لم يكن استئنافاً تقنياً لمسار بحثي توقّف، بل محاولة واعية لالتقاط لحظة عالمية وإقليمية تتفكك فيها البُنى، وتُعاد صياغة موازين القوى، وتتراجع فيها اليقينات التي حكمت العقدين الماضيين.


اللافت هذا العام لم يكن فقط كثافة الحضور البحثي والسياسي، ولا عودة بيروت منصةً للنقاش بعد كل ما أصابها، بل الحضور الآسيوي، ولا سيما الصيني، الذي منح النقاش بُعداً يتجاوز الشرق الأوسط بوصفه ساحة أزمات، إلى اعتباره عقدة أساسية في نظام دولي يتجه بوضوح نحو التعددية القطبية غير المستقرة.

 

 

منذ الجلسة الافتتاحية، بدا أن عنوان المؤتمر ليس توصيفاً بل إشكالية. مروان المعشر ، نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي، قدّم "احتواء الشرذمة" بوصفه مهمة فكرية وسياسية في آن، لا شعاراً أخلاقياً. فالمنطقة، وفق ما قال، دخلت مرحلة جديدة منذ حرب غزة، حيث تسارعت التحولات وتجاوزت آثارها الحدود الجغرافية. وفي هذا السياق، لم تعد بيروت "مكانًا للقلق"، بل مساحة صمود، وساحة نادرة للنقاش الصريح في زمن تضيق فيه المساحات. أما الإشارة إلى انكفاء السياسة الخارجية الأميركية نحو الداخل، فلم تأتِ كتوصيف عابر، بل كإطار عام يفسّر كثيراً من الفوضى الاستراتيجية السائدة.

 

 

مهى يحيى، مديرة مركز كارنيغي الشرق الأوسط في بيروت، ذهبت أبعد في ربط المحلي بالإقليمي والدولي. عودة المؤتمر بعد عامين، وفق مقاربتها، تعكس حجم التحديات لا انحسارها. ما بعد السابع من أكتوبر ليس مرحلة عابرة، بل طور جديد اتسعت فيه رقعة العنف، وبرزت فيه الكارثة الإنسانية في غزة كاختبار قاسٍ لمنظومة العدالة الدولية. ومع أن المحور الإيراني خرج مثقلاً بالضعف، فإن ذلك لم يُنتج استقراراً، بل زاد المشهد هشاشة. اللافت في طرح يحيى كان الإصرار على أن الديبلوماسية، رغم كل شيء، لم تختفِ، وأن الدول العربية تحاول – بحدود الممكن – تخفيف التصعيد، في ظل تراجع واضح في دور المؤسسات الدولية.

 

 

من هنا، لم يكن المؤتمر معنياً بتقديم أجوبة جاهزة، بل بطرح سؤال مركزي: كيف يمكن الوصول إلى عالم أكثر عدالة في واقع مشرذم؟ وهو سؤال ظل يتردّد، بأشكال مختلفة، في معظم الجلسات.

 

ريما مكتبي تحاور المسؤول الصيني  (كارنيغي)
ريما مكتبي تحاور المسؤول الصيني (كارنيغي)

 

الجلسة الأولى مع نائب رئيس الحكومة اللبنانية طارق متري عكست بوضوح التوتر بين الطموح والواقع. متري لم يُقدّم خطاباً ترويجياً، بل رسم صورة حكومة تعمل تحت ضغط داخلي وخارجي، في دولة اعتادت على التشرذم المؤسسي. الحديث عن الإصلاحات، ومكافحة الفساد، وبسط سلطة الدولة، جاء مقروناً باعتراف صريح ببطء التقدم، وبحجم المقاومة السياسية وغير السياسية. حتى ملف سلاح حزب الله، طُرح بلغة حذرة، تتحدث عن مسار تدريجي وقدرات يجب تعزيزها، لا عن قفزات كبرى.

 

وقال: "الجيش جاهز للانتقال إلى المرحلة الثانية من حصر السلاح من دون جدول زمني".

 

 

لكن أهمية هذه الجلسة لم تكن في التفاصيل التقنية، بل في كونها مرآة لما يريده المؤتمر أصلاً: نقاش واقعي، غير شعاراتي، يضع القيود قبل الوعود، ويُدرج لبنان ضمن بيئة إقليمية متصدعة لا كحالة استثنائية بل كنموذج مكثّف.

الجلسات الاقتصادية – الجيوسياسية، ولا سيما تلك التي تناولت تفكك الاقتصاد العالمي وصعود مراكز تصنيع جديدة، أعادت رسم الخريطة العالمية من زاوية مختلفة. الحديث عن الصين، والخليج، والعقوبات المالية كسلاح، لم يكن نقاشاً نظرياً، بل محاولة لفهم كيف أصبحت الدولة، أكثر مركزية في زمن العولمة المتراجعة. في هذا الإطار، طُرح لبنان كبلد صغير أمام خيارات محدودة: إما الاندراج في هذه المركزيات الجديدة، وإما البقاء على الهامش.

 

 

وقدّم وزير الثقافة غسان سلامة قراءة نقدية لموقع الشرق الأوسط في النظام الدولي، معتبراً أن المنطقة ليست هامشية، ولا في موقع المتلقّي الدائم، بل تؤدّي في كثير من الأحيان دورا مُحرِّكا لمسارات النظام العالمي نفسه. ورأى أن الدول الصغيرة، ومنها لبنان، قد تستفيد أحياناً من تراجع اهتمام القوى الكبرى بها، شرط أن تُحسن إدارة هوامشها.

 

سلامة شدّد على أن لبنان ليس في موقع يسمح له بخوض حرب مع إسرائيل، داعياً إلى مقاربة واقعية تُوازن بين المبادئ والقدرات. كما توقّف عند تآكل منظومة العدالة الدولية، محذّراً من تحوّل مؤسسات أساسية، كمحكمة العدل الدولية، إلى منصات تعبير بلا قدرة تنفيذية، طارحاً السؤال الجوهري الذي ظل يخيّم على النقاش: هل ما زال القانون الدولي قائمًا فعلًا، في ظل تنصّل بعض القوى من التزاماتها وتغييب الأمم المتحدة عن مسارات القرار؟

 

أما النقاش حول الولايات المتحدة، وولاية ترامب الثانية، فجاء أقل انشغالًا بالأشخاص وأكثر تركيزاً على التحول البنيوي: أميركا لا تريد قيادة العالم، لكنها لا تنوي التخلي عن قوتها. شرق أوسط تُعاد صياغته، إسرائيل فيه لاعب مهيمن عسكرياً بلا أفق سياسي، وإيران تعيد التموضع، فيما تُفرض وقائع جديدة على حساب القانون الدولي.

في الجلسات اللاحقة، ولا سيما تلك التي تناولت إسرائيل وفلسطين، كان صوت التحذير واضحاً. مروان المعشر، من موقع خبرة طويلة، دعا صراحة إلى عدم الانخداع بفكرة السلام المفروض أو الاتفاقات المنزوعة من سياقها السياسي. الهيمنة العسكرية، كما قال، لم تُترجم يوماً إلى سلام، وتجربة الأردن حاضرة كشاهد.

الحضور الصيني في جلسة "مستقبل آسيا" لم يقدّم نفسه كبديل جاهز، بل كقوة حذرة، تحوط المخاطر وتفضّل الاستقرار على المغامرة. الصين تراقب، تستثمر، وتُدرك تعقيد الشرق الأوسط، لكنها لا تسعى – حتى الآن – إلى لعب دور أمني مباشر، وهو بحد ذاته مؤشر على طبيعة النظام العالمي المقبل: تعددية بلا قيادة.

 

من جهته، شدّد وزير الدولة لشؤون التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي كمال شحادة على أن التحوّل الرقمي في لبنان ما زال رهين غياب الإرادة السياسية، رغم امتلاك البلاد قدرات بشرية وأكاديمية واعدة. وأشار إلى نماذج إقليمية متقدّمة، لافتاً إلى أن دولاً مثل الإمارات أنشأت "سفارات بيانات" حول العالم، وهو استثمار يمكن للبنان خوضه إذا بُنيت المؤسسات اللازمة.

 

وكشف عن العمل مع وزارة العدل على قانون لحماية خصوصية البيانات، مؤكداً أن الحكومة الحالية هي الأولى التي تتعامل بجدية مع قواعد البيانات والذكاء الاصطناعي. وإذ أقرّ بمفارقة تشريع القوانين من دون الالتزام بها، شدّد على أن التطور التكنولوجي فرض تغييراً جذرياً في عمل الحكومات، ولا شيء يبرّر تأخير بناء منظومات حماية البيانات والأمن السيبراني وصياغة استراتيجية وطنية واضحة في هذا المجال.

 

في المحصلة، لم يكن مؤتمر كارنيغي الثامن محاولة لترميم نظام منهار، بل تمريناً فكرياً على العيش في عالم بلا مركز واحد. "احتواء الشرذمة" هنا لا يعني توحيد المتناقضات، بل إدارتها، وفهمها، وتفكيك أوهام الحلول السهلة. وفي بيروت - المدينة التي اعتادت أن تكون مرآة الانكسارات - بدا المؤتمر كأنه يقول: الفوضى ليست مرحلة عابرة، لكن التفكير فيها بعمق قد يكون الخطوة الأولى لتقليص كلفتها.

الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 12/16/2025 5:27:00 AM
الملاحقات ستطال كل من ترتبت عليه ضرائب ولم يقم بتسديدها، سواء كانوا شركات تتهرب من الضرائب بشكل منظم، أو أفرادا أفادوا من أعمال "صيرفة" من دون الالتزام بالواجبات الضريبية.
سياسة 12/16/2025 1:22:00 PM
وفق ما أفادت الوكالة الوطنية للإعلام.