البقاع الشمالي: عام بعد سقوط الأسد... كيف تفككت "إمبراطورية الظل"؟
المعابر غير الشرعية على الحدود اللبنانية-السورية لم تكن مجرد ممرات عابرة، بل كانت بنية اقتصادية منظمة تدار من ضمن ما يُعرف بـ"اقتصاد الظل". قبل سقوط النظام السوري في كانون الآولديسمبر 2024، كانت شبكة التهريب هذه تعمل تحت سيطرة أمنية أو شبه أمنية، أبرزها الفرقة الرابعة من الجانب السوري.

لعبت الفرقة الرابعة دور "مركز قوة موازٍ" داخل النظام، توسّع نفوذها ليشمل إدارة هذه الشبكات عبر معابر رئيسية في البقاع الشمالي من جهة القلمون والقاع ومشاريعها والهرمل.
هذا الواقع المُنظَّم مكّن من تهريب واسع النطاق للمحروقات والأدوية والسلع الغذائية، وصولاً إلى الأسلحة والمخدرات والبشر. هذا الاقتصاد خلق بيئة مثالية لعمليات غسل الأموال العابرة للحدود، حيث تُحوَّل عائدات المخدرات والسلاح إلى سيولة نقدية تُدخل إلى النظام المالي اللبناني عبر مقايضات غير شرعية، مما عرّض لبنان لمشاكل جسيمة مع منظمات دولية مثل .(FATF)

الإغلاق الأمني: صراع السيادة والجدوى الاقتصادية
بعد سقوط النظام، كثَّف الجيش اللبناني وتحديداً مديرية المخابرات الجهود لإغلاق هذه المعابر. وكان الجهد الاستخباري كثيفاً وخصوصاً في الأشهر الخمسة الماضية من عام 2025، مما أثمر عن إغلاق معابر حيوية في الهرمل والقاع على غرار "معبر مخيبر"، لم تُغلق منذ نشأتها قبل عقود. هذا الجهد الأمني، المدعوم ببناء جسور ثقة مع العائلات والعشائر الحدودية وحملات الدهم، أدى إلى تضييق الخناق على شبكات التهريب.
فالانتشار الأمني الكثيف يترجم مباشرة إلى ارتفاع تكلفة المخاطرة (Risk Premium) لشبكات التهريب. وفي هذا السياق، يوضح أستاذ الإقتصاد في الجامعة اللبنانية البروفسور جاسم عجاقة لـ "النهار" أن العلاقة بين هامش الربح والمخاطر هي علاقة عكسية: "كلما علت المخاطر كلما انخفض هامش الربح".
ويضيف أن الانتشار الأمني الواسع قد "يقضي تقريباً على هامش الربح"، مما يدفع النشاط إلى التوقف التلقائي لغياب الجدوى الاقتصادية، وهذا عامل هائل في تفكيك شبكات المافيات من الداخل.
ويؤكد أن إغلاق هذه المعابر يعوق نقل "الكاش" عبر الحدود، وهو أمر أساسي لعمل المافيات، لافتاً إلى أهمية قانون كانون الأولديسمبر 2015 الذي ينظّم عملية نقل الأموال عبر الحدود ويلجمها بشكل كبير. كما أن تجارة "الكاش" هذه، حتى لو تناولت سلعاً شرعية، تعتبر غير شرعية لغياب دفع الضرائب، ما يؤدي إلى خلق عمليات غير شرعية عملاً بالقانون 44 على 2015 الذي يعتبر التهرب الضريبي جريمة تؤدي إلى تبييض الأموال.

الأثر الاقتصادي على الدولة والقطاعات
إغلاق معابر التهريب الثقيل له انعكاسات ملموسة على المالية العامة اللبنانية وعلى القطاعات الإنتاجية:
الإيرادات وحماية القطاعات
يشير عجاقة إلى إمكان تقدير الأثر الإيجابي على الإيرادات الجمركية عبر مقارنة مداخيل الجمارك لمرحلة ما قبل الإغلاق وما بعده، مؤكداً أن أي زيادة تسجلها الجمارك تكون مؤشراً مباشراً على حجم التهريب الذي تم القضاء عليه. كذلك يرى أن وقف التهريب يساهم مباشرة في ترشيد الإنفاق الحكومي، خصوصاً على الدعم، مذكراً بأن تهريب المحروقات كان يمثل "الوزن الأكبر"، تليه المواد الغذائية والأدوية.
وفي ما يتعلق بالأثر القطاعي للمنافسة غير العادلة، يعتبر أن القطاع الصناعي هو المتضرر الأول، إذ كانت السلع المهربة تباع بأسعار أقل لغياب الرسوم الجمركية والـ TVAوقد تصل الفوارق السعرية إلى ما بين 30% و 70%
كذلك القطاع الزراعي يتأثر بشدة بالمضاربة من منتجات خارجية ذات تكلفة إنتاج أقل، مما يضر بالمزارعين اللبنانيين.
في القطاع التجاري أيضاً، يضيف عجاقة، كان التجار "الشرفاء" يتضررون بسبب المنافسة غير العادلة؛ إذ كان تجار آخرون يتعاملون مع شركات (Door-to-door) التي تتولى نقل البضائع المشتراة (كالمستوردة من الصين) وإيصالها مباشرة إلى المستودعات من دون رفع الرسوم الجمركية، مما يجعل التكلفة النهائية لهذه البضائع أقل بكثير من التكلفة الرسمية.

التحدي الاجتماعي والبدائل التنموية
إن القضاء على "إمبراطوريات الظل" يطرح تحدياً اجتماعياً يتمثل في "اقتصاد الخبز اليومي" للعمالة المحلية. ويصف عجاقة هذه الشريحة العاملة في نقل "البضائع غير الممنوعة" بأنها "كبيرة"، لكن طبيعة عملها "هشة وغير مستدامة". إن غياب هذه الفرص الموقتة يسمى في علم الاقتصاد "تكلفة الفرصة البديلة" (Opportunity Cost) والتي على الدولة تقديرها عبر موازنتها بالخسائر في إيرادات الدولة والقطاعات الإنتاجية في مقابل تكلفة توفير الوظائف المستدامة.
في ظل تضييق الخناق، قد تتجه شبكات الجريمة إلى أنشطة بديلة مثل الاحتيال والتزوير المالي، مما يفرض على الدولة تقديم بدائل دخل موثوقة ومستدامة الى اهالي المنطقة. وتتمثل خريطة الطريق للتنمية، كما يراها عجاقة في:
الزراعة والصناعات الغذائية (الأساس): لخلق نموذج زراعي تتبعه صناعة غذائية.
قطاع الطاقة: لإنشاء مزارع شمسية Solar panels تخلق وظائف في البنية التحتية.
السياحة البيئية: لاستغلال المقومات الطبيعية في المنطقة.
ولتحفيز الاستثمار الخاص، اقترح أدوات مثل القروض الميسرة بضمانة الدولة، ومنح إعفاءات ضريبية وربما إنشاء منطقة حرة معفية من الضرائب، وتحسين البنية التحتية.
الأثر على المستهلك وإدارة الصدمة
في المدى القصير، من المتوقع أن يؤدي الوقف الجدي للتهريب إلى صدمة سعرية موقتة للمستهلك اللبناني. ويرى أن الأسعار الرسمية سترتفع لأن التجار الشرعيين سيدفعون الضرائب والرسوم، مضيفاً أن الفجوة السعرية قد تصل إلى 70% لبعض السلع.
ويعتبر أنه للتحكم بهذه الصدمة، على الحكومة التدخل بآليتين: تخفيف الرسوم والضرائب على السلع الأساسية، والعمل على تحفيز الإنتاج المحلي وإبرام اتفاقات لتوفير السلع بأسعار مخفوضة.
ويلفت في هذا الصدد إلى أن مشروع موازنة الحكومة اللبنانية لعام 2026 يطالب بصلاحيات تشريع جمركي، أي منح الحكومة القدرة على تعديل النسب الجمركية من دون العودة إلى المجلس النيابي لمدة معينة، مما يدل على وجود إرادة لإدارة هذه الصدمات السعرية بمرونة.
إن سقوط "إمبراطوريات الظل" يمثل انتصاراً لسيادة الدولة، ولكنه يلقي مسؤولية جسيمة على عاتقها لتوفير التنمية الاقتصادية المستدامة كبديل دائم لـ"اقتصاد الفرصة" الهش والملوث بالجريمة في شمال البقاع.
نبض