انتحار ومحاولات هروب وشهود يروون الانتهاكات... كيف يعيش قاصرون موقوفون في سجون لبنان؟
عاد المحامي محمد صبلوح من سوريا بعد أن استحصل على وكالة من عائلة القاصر مهند محمد الأحمد (14عاماً) الذي أنهى حياته داخل سجن الوروار، الإثنين 29 أيلول/ سبتمبر الجاري.
كان مهند قد أوقف مع شقيقه بتهمة سرقة كابلات كهرباء الدولة، ووفق ما يؤكده المحامي صبلوح لـ"النهار" فإن العائلة أشارت إلى أن القاصرين تعرّضا للتعذيب خلال جلسات الاستجواب قبل أن يُنقل مهند إلى مبنى القاصرين، وشقيقه إلى مبنى المحكومين في رومية.
بقي مهند موقوفاً نحو ثلاثة أشهر، من دون ان يتمكن خلال تلك المدة من التواصل مع عائلته. كان يعاني من مشاكل نفسية يتابعها أحد الاختصاصيين قبل أن تتوقف المتابعة بسبب نقص الكادر العلاجي في السجن.
يرى صبلوح أن أسباباً عديدة دفعت بمهند إلى حافة الانهيار، مؤكداً أن "سبب الوفاة هو الانتحار ولكن الدوافع التي قادته إليه متشابكة ومعقدة، تبدأ من سوء المعاملة وتنتهي بغياب الرعاية النفسية داخل السجن".
لم تكن الأخيرة حادثة انتحار القاصر مهند الأحمد، في المركز التأهيلي للأحداث المخالفين للقانون في الوروار. فقد علمت "النهار" أن قاصراً آخر حاول الانتحار في تشرين الأول/أكتوبر، وتمّ نقله إلى المستشفى لتلقي العلاج، في ظل تعتيم شديد على التفاصيل.
كذلك كشفت معلومات خاصة لـ"النهار" عن محاولة هروب قاصرين اثنين من المركز التأهيلي في الوروار خلال الفترة الماضية، من دون أن يُعلن عن الأمر إعلامياً، تفادياً لإثارة البلبلة.
في المقابل، أدت التحركات التي قامت بها الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان إلى فتح تحقيق في ما يجري بمبنى الأحداث في الوروار. وقد علمت "النهار" أن عدداً من العناصر الأمنية تم توقيفها والتحقيق معها. وهذا يعني أن المحاسبة قد بدأت وهناك نية في معالجة المشاكل بجدية وحزم.
حاولت "النهار" التواصل مع المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي للوقوف على ما يجري داخل سجن الأحداث، وفهم العقبات والثغرات التي تعوق عملية الإصلاح والتأهيل، إلا أننا لم نتلقَّ حتى لحظة إعداد هذا التحقيق أيّ رد رسمي.
وكانت "النهار" قد وجّهت كتاباً رسمياً إلى المديرية قبل نحو أسبوعين، بهدف إجراء مقابلة تتناول الشقَّين الإيجابي والسلبي لما يحدث داخل مبنى الأحداث، سواء في رومية سابقاً أو في الوروار حالياً، غير أن الردّ لم يصل بعد.
تقرير- لبنان: أوضاع مروّعة في السجون
"بدي أطلع من هون"
تروي ياسمين والدة قاصر وخالة قاصر آخر يمضيان عقوبتهما في المركز التأهيلي في الوروار لـ"النهار" قساوة حادثة انتحار مهند على ابنها وابن شقيقتها.
لا تنسى ذلك اليوم حين دخل ابن شقيقتها بوجهه الشاحب، وارتمى في حضنها قائلاً بصوت مرتجف: "يا خالتي، بدي أطلع من هون... نحنا شو ذنبنا؟". كانت تلك الكلمات صرخة استغاثة بعد المشهد القاسي الذي رآه داخل غرفته في المركز التأهيلي في الوروار، حين أقدم مهند على الانتحار داخل الحمّام.
كان ابن شقيقتها أول من شاهد مهند في تلك الحالة المروّعة، وكان بحاجة إلى من يفرّغ أمامه خوفه وهواجسه. تقول ياسمين: "قال لي يا خالتي، كان لونه أزرق وبحالة مخيفة... لا يمكن أن أنسى المشهد".
تستعيد ياسمين تلك الساعات الثقيلة بعد عودتها إلى المنزل موضحةً: "الرعب أكلني... لم أعد أعرف ما الذي يجب أن أفعله. حياتنا دمرت، والله نحنا شو عملنا؟... علينا أن ندفع الثمن لأن الشخص المدعي عليهما مدعوم. بس نحنا شو ذنبنا؟".
تتكبّد ياسمين نحو خمسين دولاراً في كل زيارة تقوم بها لولدها وابن شقيقتها، بين أكلاف المواصلات والمستلزمات التي تحرص على تأمينها لهما. تقول إنها في بعض الأحيان تضطر إلى السير لأكثر من ساعة ونصف ساعة لتجنّب تكلفة سيارة الأجرة، مضيفة: "أعمل بكل جهدي لتأمين بطاقة اتصال (كارت) لأتمكّن من التواصل معهما داخل المركز، خوفي الوحيد إنو يموتوا جوا".
لكن محاولة الانتحار الثانية جاءت ضربة قاضية لياسمين وعائلتها، فانهارت قواها ولم تجد أمامها سوى اللجوء إلى الإعلام لتُسمِع صوتها. كل ما تطلبه اليوم هو أمر واحد تكرّره بحرقة: "بدي طلّع ولادي... ما معي مصاري، بس أكيد المصاري منا أغلى من ولادي".
يروي القاصران لياسمين تفاصيل مؤلمة مما عايشاه داخل المركز: "يصعب علينا أن ننسى صرخات القاصرين اللذين حاولا الهرب، قبل أن تُلقي العناصر الأمنية القبض عليهما وتنهال عليهما بالضرب المبرّح. لم يكتفوا بذلك، بل أقدموا على حلق شعر جميع الموجودين كعقوبة جماعية".
تصف ياسمين حال ولدها وابن شقيقتها بأنها "مزرية ومأسوية. كانو بحالة نفسية سيئة جداً، ما عاد فيهم يتحملو".
لكن ما يؤلمها أيضاً، كيفية تعامل العناصر الأمنية مع الأغراض التي تجلبها معها، تقول: "يمنعوني من إدخال هذه التحلية إلى ابني وابن شقيقتي، لكنهم لا يمنعون أن أحضر معي علب سجائر التي تدخل بشكل عادي. ببساطة، الأولى لا تعنيهم، أما السجائر فتصبح من نصيب الحراس والمولجين حماية القاصرين!".
خمس سنوات من الانتظار
كان جناح الأحداث في سجن رومية، والمخصص للقاصرين، يقع في المبنى نفسه المخصص للبالغين، لا يفصل بينهما سوى باب حديدي. هذا الجناح، المعروف باسم مبنى الأحداث، كان يضم عدداً من الغرف المجهزة ومجموعة من المشاغل التأهيلية التي أنشأتها ودعمتها جمعيات متعاونة، بهدف تأمين بيئة أكثر إنسانية لهؤلاء القاصرين.
قبل انتقالهم إلى المركز التأهيلي للأحداث المخالفين للقانون (وفق التسمية الجديدة) في منطقة الوروار في أيلول الماضي، كان نحو 100 قاصر يعيشون في مبنى الأحداث في رومية، وسط ظروف وُصفت بأنها أفضل نسبياً من أوضاع السجناء الآخرين داخل السجن نفسه.
ويؤكد الأب نجيب بعقليني، رئيس جمعية "عدل ورحمة"، هذه الصورة قائلاً: "جناح القاصرين كان بمثابة فندق أربع نجوم مقارنة ببقية مباني سجن رومية".
صحيح أن المركز التأهيلي للأحداث المخالفين للقانون في الوروار ليس جديداً بالكامل، لكنه خضع لعملية تأهيل وتجهيز وفق المعايير الدولية التي تراعي الجوانب الإصلاحية والتدريبية، ليضم اليوم نحو مئة قاصر.
لم تهدأ صرخات الجمعيات المطالِبة بتأهيل مبنى جديد يليق بالأحداث الموقوفين، إذ استمرت هذه المطالب لأكثر من خمس سنوات قبل أن تتحقق أخيراً مع افتتاح مبنى الوروار قبل نحو شهر (أيلول 2025).
ورغم التأخير في الانتقال إلى الوروار، إلا أنّ هذا الأخير لا يبدو خالياً من المعوقات اللوجستية والمشكلات الإدارية، وفق ما تؤكده أكثر من جهة متابعة لهذا الملف.
ويشير صبلوح إلى أن أبرز هذه الثغرات يكمن في عدد عناصر الحراسة الذي لا يتجاوز عشرين في مقابل نحو مئة قاصر، وهو رقم غير كافٍ لضمان المراقبة والتأهيل معاً. ناهيك بالتأخر في تقديم وجبات الطعام بسبب الجهة المكلّفة نقلها من رومية إلى الوروار، إذ "تصل وجبة الغداء أحياناً عند الخامسة مساءً"، فضلاً عن حرمان القاصرين الخروج إلى الباحة الخارجية، وتعرض بعضهم لـ"معاملة قاسية"، إلى جانب غياب الكاميرات التي يفترض أن تغطي سائر زوايا المبنى وطبقاته لضمان الرقابة والشفافية".
ويعتبر الأب بعقليني أن انتقال القاصرين إلى المركز التأهيلي في الوراور خطوة جيدة وضرورية إلا أنها غير كافية لتأهيل النزلاء وتصحيح مسارهم. برأيه "نحن بحاجة إلى زيادة عدد الاختصاصيين المعنيين بمتابعة حالة القاصرين وحمايتهم ومساعدتهم، لأن العدد اليوم غير كاف. إلى جانب زيادة الأدوية وتحسين التنظيم في وجبات الأكل إذ لاتزال ساعة الغداء حوالى الرابعة أو الخامسة بعد الظهر، وهذا من شأنه أن يولد فوضى وارباكاً وبيئة غير مريحة وآمنة. باختصار نحن بحاجة ليس إلى مكان فحسب وإنما إلى فريق كامل متكامل لتأمين الخدمة المطلوبة لتأهيل القاصرين ومساعدتهم".
من جهتها، تتحدث مديرة البرامج في جمعية "الحركة الاجتماعية" شارلوت طانيوس عن الصعوبات التي تواجه القاصرين والعاملين معهم، والتي أدى بعضها إلى تأخير الانتقال إلى الوروار. وتشمل هذه الصعوبات نقصاً في عدد عناصر قوى الأمن، قلة في آليات سوق القاصرين إلى المحاكم، وتأخر تقديم وجبات الطعام.
تحاول الجمعية بالتعاون مع الجمعيات الأخرى المعنية بسجون الأحداث، وآمر السجن والمعنيين، تعديل بعض الأمور الأساسية، مثل توزيع أيام حضور الجمعيات بشكل يومي لضمان عدم بقاء القاصرين من دون متابعة ورعاية مستمرتين.
وتشير طانيوس إلى أنه أصبح بإمكان القاصرين، في الوروار، ملاقاة ذويهم وعائلاتهم وجهاً لوجه ثلاث مرات أسبوعياً، بعد أن كان ذلك مستحيلاً في رومية. كما أصبح لديهم خروج منتظم إلى الباحة الخارجية مرتين في الأسبوع، وهي ممارسة لم تكن تتوافر أحياناً بهذه الوتيرة عندما كانوا في رومية.
قاصرون في النظارات
يوجد حالياً في نظارات جبل لبنان ما بين 60 و65 قاصراً موقوفاً، منهم من صدرت بحقهم مذكرات توقيف، فيما لا يزال آخرون من دون أي حكم قضائي ولم تُعقد جلساتهم بعد. هذا التأخير في بت القضايا يؤدي عملياً إلى عرقلة نقل القاصرين إلى سجن الأحداث، إذ لا يمكن تحويلهم إليه إلا بعد صدور مذكرة توقيف رسمية.
وتختلف هذه النسب بين المحافظات الأخرى، إذ يراوح عدد الموقوفين القاصرين فيها بين 40 و60 قاصراً بحسب حجم كل محافظة وعدد القضايا المسجلة.
لكن هذه الأرقام تبقى تقديرية وغير ثابتة، إذ يؤكد "الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان" أنه "لا يمكن تحديد العدد الدقيق للموقوفين، لأن الأعداد تتبدل يومياً، فربما يُوقَف عشرة قاصرين في ليلة واحدة ويُخلى سبيلهم في اليوم التالي"، ما يجعل المشهد العام متغيراً باستمرار ويصعب ضبطه إحصائياً.
وفي الاستماع الى شهادات المعنيين والقاصرين ومراقبتها، يتبين أن ثمة جمعيات لم تتمكّن من متابعة عملها داخل سجن رومية – مبنى الأحداث، بسبب توقّف التمويل عنها، ما أدّى إلى انقطاع الخدمات النفسية والاجتماعية داخل النظارات.
ويرى الاتحاد أن "التوقف ينعكس سلباً على الأوضاع داخل النظارات المكتظة، حيث يُحتجز القاصرون في غرف ضيّقة لآماد طويلة في انتظار نقلهم إلى الجلسات، ما يشكّل وضعاً خطيراً يستدعي معالجة فورية وإعادة تفعيل المتابعة النفسية والاجتماعية بشكل منتظم ومستدام".

شهادة قاصر خرج من رومية
في منطقة نائية، توجهنا إلى القاصر المراهق أ. ابن السابعة عشر ة، للاستماع إلى قصته التي يرويها بكل صدق وبتفاصيل دقيقة. لم تتجاوز مدة احتجازه في النظارات ثم في مبنى الأحداث في رومية شهرين، لكنها كانت كفيلة كشف واقع قاسٍ قلّما يُروى أو يُسلَّط عليه الضوء.
أُوقف هذا القاصر مع مجموعة من أصدقائه بتهمة السرقة. كان في السادسة عشرة ويعمل على “توك توك” في منطقته خلال العطلة الصيفية. يروي أنه اقتصر دوره على إيصال أصدقائه إلى المكان الذي أرادوا التوجه إليه، من دون أن يعلم بنيّتهم المسبقة تنفيذ السرقة. لكن سرعان ما انكشفت القصة، وأُوقف هو أيضاً بعد أن وشى به أحد أصدقائه، ليتحول اسمه إلى واحد من المتهمين بالمشاركة.
كانت البداية من واقع النظارات، حيث وجد نفسه في مواجهة قسوة التجربة والانتهاكات التي تُرتكب هناك. يستعيد تلك الأيام قائلاً: "تعرّضنا للضرب المبرّح، وحُلق شعر رؤوسنا. في أحد المخافر، ضُربت على رأسي ما تسبب بجرحٍ عميق. كنا أحياناً نتعرض للضرب عند الثانية فجراً، كانوا يدخلون متى شاؤوا ليضربونا، وكانوا يريدون مني أن أبكي بالقوة وأركع أمام ضابط التحقيق".
جاءت برقية نقله إلى سجن رومية – مبنى الأحداث، وهناك بدأت فصول جديدة من الظلم والاستقواء وابتزاز المال في مقابل أبسط مقوّمات العيش. يصف تلك المرحلة قائلاً: "كانت الليلة الأولى في رومية من أصعب الليالي التي عشتها خلال فترة احتجازي هناك".
ويتابع: "عندما دخلت الغرفة، شعرت أنني غريب عن كل ما يدور حولي. قضيت ليلتي الأولى على الأرض، واكتشفت سريعاً أن كل خدمة تُطلب داخل المبنى لها ثمن، وأن الموقوفين القدامى يفرضون قوتهم وسلطتهم على الوافدين الجدد".

ولكن رويداً رويداً بدأ يدرك كيفية العيش في تلك الغرفة، يروي لنا بعض التفاصيل قائلاً: "الأيام الأولى قضيتها نائماً على الأرض، لم نكن نملك المال لندفع ثمن خدمة النوم على الفراش. ولكن بعد أن أصبحت لدينا فواتير كما يسمونها، أصبحتُ قادراً على شراء كل الخدمات التي توفر لي الراحة والعيش بطريقة مقبولة داخل السجن "الدخان في مقابل الخدمات".
يختصر الشاب الواقع داخل السجن بهذه العبارة "يلي معو مصاري بيعيش ملك جوا". يتحدث عن أساليب تعلمها لتفادي تطور أمراض جلدية مثل "وضع ملح على الجرح حتى لا يتحول الى إكزيما، خصوصاً أن هذه الحالة منتشرة كثيراً في السجن"، كما كان يقتصر على شرب المياه مرتين في الأسبوع فقط لتجنب الأمراض نتيجة تلوثها والاستحمام بمياه غير نظيفة.

جلسات متباعدة وتأجيل متكرر
ولا تقتصر هذه المعوقات والتحديات على الجوانب اللوجستية للمبنى، بل تمتدّ إلى المنظومة القضائية نفسها. يشرح صبلوح أنّ "القضاء يحدد جلسات متباعدة زمنياً، فيما تعجز إدارة السجن عن تأمين آليات نقل الموقوفين أو تسريع بت ملفاتهم".
هذه الإجراءات البطيئة، كما يقول، تترك آثاراً نفسية قاسية على القاصرين الذين يعيشون في حالة من القلق وفقدان الأمل، ويشعرون بأنهم محكومون بالبقاء خلف القضبان إلى أجل غير مسمّى، من دون وضوح لمسار قضاياهم أو لموعد الخروج إلى الحرية.
"ففي بعض الحالات، تكون المحاكمة قائمة فعلاً، إلا أن غياب السوق" كما يؤكد الاتحاد "يؤخر حضور الموقوفين إلى الجلسات، مما يعرقل الإجراءات القضائية". وبينما كان يُسمح سابقاً خلال جائحة كورونا والثورة والعدوان الإسرائيلي بإجراء المحاكمة عبر الاتصال المرئي (فيديو كول)، نعود اليوم إلى إلزامية إجراء المحاكمة مباشرة، ما يؤدي إلى تأجيل الجلسات لأوقات طويلة، ويبقى القاصر موقوفاً من دون أن تُعقد محاكمته. وأهم الأسباب التي تؤدي إلى التأخير وبت المحاكمات نقص العديد في قوى الأمن وعدم وجود آليات لسوق الموقوفين نتيجة تعطل غالبية الآليات العسكرية.
وعلمت "النهار" أن مديرة إحدى الجمعيات المعنية بسجون الأحداث تكفّلت على نفقتها الخاصة إصلاح آليتين مخصّصتين لنقل القاصرين إلى المستشفيات، بعدما تعذّر نقلهم لأيام بسبب تعطل هذه الآليات، في انتظار آلية بديلة تُرسل من رومية إذا توافّرت.
في المقابل، يشير الأب بعقليني إلى أن أكثر الموجودين من القاصرين هم موقوفون ولم تبت ملفاتهم بعد، في حين أن الآخرين صدرت بحقهم أحكام قضائية.
وبالنظر إلى بعض الحالات، نجد أن ثمة قاصرين ارتبكوا جنحة أو جناية تستوجب حكماً لا يتخطى ستة أشهر أو سنة، لكن نتيجة بطء المحاكمات تخطى البعض محكومتيه وما زال موقوفاً من دون صدور حكم قضائي بحقه. لذلك يطالب المعنيون والجمعيات المتابعة بتسريع المحاكمات وتطبيق العقوبة البديلة التي تساعد الأشخاص على العودة إلى حياتهم الطبيعية والمجتمع من دون الوصمة الاجتماعية. ومن الثغرات التي يعاني منها المتهمون عدم القدرة على توكيل محامي وبطء المحاكمات... وهذا داقع إضافي للضغط من أجل تعجيل محاكمات القاصرين لإخراجهم سريعاً من هذا الجو وتأهيلهم بطريقة صحيحة.

قصة قاصرين من قصص كثيرة
يعمل زوج ياسمين وسلفها في إحدى المزارع في منطقة البترون، غير أنّ صاحب المشروع امتنع عن دفع مستحقاتهما، حتى تراكم لهما في ذمته نحو خمسة آلاف دولار. وتروي لـ"النهار" تفاصيل الحادثة التي أدت إلى توقيف ابنها وابن شقيقتها، قائلةً : إن "الراعي الذي يعمل أيضاً لدى صاحب المشروع اتصل بنا، وهو شخص نعرفه جيداً، وطلب أن نحضر له ماء وسحائر. وعندما وصل ابني وابن شقيقتي لإيصال الأغراض فوجئا بوجود الدرك في المكان، وما إن وصلا حتى قبضوا عليهما وضربوهما".
وبعد نحو نصف ساعة، تضيف، "حضرت سيارة الدرك إلى المنزل، وصرخ أحد العناصر قائلاً: "بسرعة، أعطونا الأوراق الثبوتية للقاصرين ن. الدين وع.، والحقونا إلى المخفر".
على عجل، خرجت ياسمين وزوجها لمعرفة ما يجري، وعند وصولهما إلى المخفر، فوجئا بأحد عناصر الدرك يقول لهما: "أولادكم حرامية، تفاوضوا مع الشخص اللي سرقوه أولادكم". وكانت الصدمة، كما تروي، أن الشخص الذي اتهم ابنها وابن شقيقتها هو نفسه صاحب المزرعة الذي يعمل عنده زوجها وسلفها، وهو أيضاً يشغل منصب رئيس قلم في المنطقة.
تأخر في سير المحاكمات
"تُشكّل الإضرابات في الجسم القضائي، سواء من القضاة أو الموظفين والمساعدين القضائيين، حيزاً مهماً في تعطّل المحاكمات أو تأخرها"، هذا ما يؤكده "إتحاد حماية الأحداث"، ناهيك بحالات ضياع أو فقدان للملفات أو ترك الملفات من دون متابعة فعلية، أو غياب المتابعة القانونية بسبب عدم وجود محامٍ مكلّف القضية، وجميعها تؤدي إلى تأخّر سير المحاكمات.
ونتيجة هذا الواقع، يمكن الحديث عن أهمية البند الخامس المتعلّق بتكليف المحامي ودوره الأساسي في متابعة ملفات القاصرين، إذ إنّ وجود محامٍ مكلّف الحضور أثناء التحقيقات والجلسات القضائية يُعتبر عنصراً أساسياً لمتابعة ملفه على الصعيد القانوني، وخصوصاً في الحالات التي يكون فيها القاصر من دون أسرة أو من جنسية أجنبية، إذ قد يكون قدِم إلى لبنان بمفرده من دون أي مرافقة عائلية.
ويواجه المحامون في هذه الحالات، وفق ما يشير إليه الاتحاد "صعوبة في تولّي الوكالة القانونية عن القاصر، نظراً الى كونه غير راشد قانوناً، كما أنّ بعض القضاة يرفض تكليف محامٍ على المحضر، رغم أنّ هذا الإجراء يساهم فعلياً في تسريع مسار الملف وضمان حقوق القاصر".
في المقابل، هناك العديد من القضاة الذين يوافقون على حضور المحامي انسجاماً مع ما نصّت عليه المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، التي سهّلت إمكان حضور محام أو تكليفه أثناء التحقيقات الأولية. وعليه، يؤكد مكتب حماية الأحداث مواكبته للقاصر اجتماعياً و نفسياً خلال التحقيق الأولي والجلسات، وإحالته على محامين متعاقدين مع جمعيات مختلفة لضمان تلقيه حقوقه كاملة.
وتُظهر الثغرات في بطء المحاكمات والجلسات، الحاجة الملحّة إلى تسريع الإجراءات القضائية، خصوصاً أن إحصاءات وزارة الداخلية والبلديات تشير إلى أن نحو 62 في المئة من الموقوفين في لبنان غير محكومين بعد.
وتنص المادة 108 من أصول المحاكمات الجزائية على وضع سقف زمني للتوقيف الاحتياطي، إلا أن الممارسات الفعلية غالباً ما تتجاوز هذه الحدود القانونية.
يؤكد ذلك صبلوح الذي يشير إلى أن التأجيل المتكرر وبطء المحاكمات باتا يشكلان انتهاكاً واضحاً لحقوق القاصرين الموقوفين.
ويستشهد بقضية قاصرين اثنين تم تحديد أربع جلسات لهما، لكن القاضية رفضت إجراء الجلسة عبر الإنترنت، ولم تتوافر آلية لسوقهما إلى المحكمة، كما رفضت تخلية سبيلهما. وبعد تذكيرها بالتزام المادة 108، قررت في النهاية بتّ طلب تخليتهما في مقابل كفالة تفوق 4 آلاف دولار، في حين ان التهمة الموجهة إليهما (وهي تهمة افترائية) بسرقة خروف لا يتخطى 300 دولار.
ويرى صبلوح أن القضاء يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن واقع سجون الأحداث، "على الجميع تحمل مسؤولياتهم لتحسين هذا الواقع ومعالجة الثغرات القائمة، محذراً من أنه "إذا استمر التراخي والإهمال، فسنحوّل القاصرين الموقوفين إلى مجرمين في المستقبل".
تأجيل وقصة ضياع السجل العدلي
"الصراع المؤجّل"، بهذه الكلمات تختصر ياسمين رحلتها مع العدالة، والجلسات الثلاث التي انتهت جميعها بالتأجيل.
تروي تفاصيل ما جرى: في جلسة 30 أيلول 2025، رفضت القاضية تخلية سبيل الطفلين بانتظار الحصول على السجل العدلي الخاص بهما. ورغم أن المحكمة كانت قد طلبت هذا السجل في 25 أيلول 2025، لم يُعرف عنه شيء، وقيل لاحقاً إنه ضاع. بناءً على ذلك، أُجِّلت الجلسة إلى 14 تشرين الأول 2025.
في اليوم المحدد، تضيف، "وصلنا إلى المحكمة ولم نجد الطفلين". وعندما سألنا عن السبب، جاء الجواب: "لا توجد آليات لسوق القاصرين إلى المحكمة". فكان التأجيل مرة أخرى، وحددت الجلسة الجديدة في 21 تشرين الأول 2025. في تلك الجلسة أيضاً، رفضت القاضية تخلية سبيلهما بحجة عدم توافر السجل العدلي. وبعد رفع الجلسة، وأثناء تصوير المحضر، اكتشفت المحامية المساعدة أن السجل العدلي موجود هناك!
تقول ياسمين باستغراب: "ثلاث جلسات متتالية ضاع فيها السجل العدلي، ثم يظهر فجأة بعد رفع الجلسة؟ كيف يمكن أن يحدث ذلك؟".
في اليوم التالي، أي في 22 تشرين الأول 2025، أصدرت القاضية قراراً بتخلية القاصرين، ولكن بشرط جزائي أثار صدمة العائلة. تبكي ياسمين بحرقة قائلةً: "الشرط الجزائي كان دفع مبلغ 426 مليون ليرة لبنانية، وفي حال تعذر الدفع، سيبقيان في السجن. من أين لي أن أدفع هذا المبلغ؟ الطفلان لم يقترفا أي ذنب، بل هما ضحية ظلم وقع علينا، واليوم يُطلب مني أن أدفع هذا المبلغ لأُخرجَهما من السجن".
"متى سأخرج من هنا؟"
تُشكّل جرائم السرقة النسبة الكبرى من الجرائم التي يرتكبها القاصرون، تليها جرائم المخدرات ثم القتل، وتراوح أعمارهم بين 12 و17 عاماً. وتشير المعطيات إلى أن غالبية القاصرين تتحدر من منطقة الشمال، تليها بيروت وجبل لبنان.
وتوضح شارلوت طانيوس أن العبارة الأكثر ترداداً في المركز التأهيلي في الوروار هي: "متى سأخرج من هنا؟ متى موعد جلستي؟". إذ يشكّل الملف القانوني الهاجس الأكبر للقاصر داخل السجن، يفكر فيه أكثر من أي أمر آخر.
وتضيف أن أبرز التحديات التي تواجههم هي غياب آلية مخصصة لنقل القاصرين إلى جلساتهم القضائية، ما يؤدي إلى تأخير المحاكمات وتعطيل بت ملفاتهم.
ولكن في المقابل، شهدنا على تشكيلات جديدة في قضاة الأحداث، وبدأنا كجمعيات معنية نزور القضاة ونطلعهم على دورنا وأهم الاصلاحات التي نسعى إلى تحقيقها. وتأمل في أن تنجح الجمعية بالتعاون مع وزارة العدل و"اليونيسيف" والاتحاد الأوروبي، بوضع اللمسات الأخيرة على دليل يتضمن كل الاجراءات والتدابير غير المانعة للحرية والتي يمكن تطبيقها وفق القانون. والهدف من هذه الخطوة أن نساعد القاصرين على الاندماج بشكل أفضل في المجتمع.
ميزانية متواضعة لواقع صعب
يعترف بعقليني بأن الأمور في السجون ليست طبيعية ولا صحيحة، بالنسبة إليه الموضوع يتعلق بقرار سياسي.
وبعد 27 عاماً من العمل مع النزلاء، يؤكد أن "الوضع لم يتحسن كثيراً، لأسباب عديدة، مطالباً الحكومة اللبنانية والمجلس النيابي بزيادة موازنة السجون لتحسين السجون وإعادة التأهيل وادماج الخارجين من العقوبة في المجتمع". فالهدف من السجن هو اصلاحي بما أن القاصر ما زال في طور النمو ويمكن انقاذه أكثر من البالغ".
عندما نتحدث عن القاصرين المسجونين تنجلي بوضوح ثغرات كثيرة متفاقمة أدت إلى واقع هش على مختلف المستويات. من بطء المحاكمات وعدم تعيين محامين وقلة وجود آليات سوق الموقوفين وغيرها إلى واقع أقسى يتناول الدعم النفسي والاجتماعي لهذه الفئة.
تبدأ الإشكالية الأولى بعدم قدرة عائلات القاصرين على زيارة أولادهم الموقوفين، ووفق ما يشير إليه "اتحاد حماية الأحداث" تكمن المشكلة الأساسية في عدم وضوح التعميم الصادر عن النيابة العامة التمييزية أو تطبيقه، والذي ينصّ على أنه لم يعد من الضروري على الأهل استصدار إذن زيارة من النيابات العامة لزيارة أولادهم، وذلك بهدف تسهيل الإجراءات وتقليص المعاملات الإدارية، إلا أنّ هذا التعميم لا يتم تطبيقه بشكل موحّد. إذ يُفاجَأ الأهل عند حضورهم إلى السجن بطلب إذن زيارة رسمي، فيُضطرّون للعودة إلى النيابات العامة، حيث يُبلَّغون مجدداً بوجود التعميم، ما يضعهم في حلقة مفرغة بين الجهات القضائية والإدارية.
لذلك، من الضروري كما يشدد الاتحاد، أن تقوم النيابة العامة التمييزية بإعادة تعميم القرار بشكل واضح على ادارة السجون، والتأكيد على تطبيقه، بما يضمن تسهيل حق الأهالي في زيارة أولادهم القاصرين ضمن الأوقات المحددة للزيارة، ومن دون الحاجة الى إجراءات إضافية قد تؤدي إلى انقطاع التواصل الأسري وزيادة الضغط النفسي على القاصرين.
نبض