كندا قوية أمام خيارات استراتيجية: السيادة، الاستقلال، وتنويع الشراكات

العالم 25-12-2025 | 10:13

كندا قوية أمام خيارات استراتيجية: السيادة، الاستقلال، وتنويع الشراكات

تنطلق هذه الاستراتيجية من إدراك متكامل لتشابك التحديات التي تواجه كندا، من الاعتماد التجاري، والتغيرات المناخية والتحديات الجيواستراتيجية في القطب الشمالي، إلى التهديدات الأمنية العابرة للحدود والتحولات التكنولوجية العميقة.
كندا قوية أمام خيارات استراتيجية: السيادة، الاستقلال، وتنويع الشراكات
رئيس الوزراء الكندي مارك كارني
Smaller Bigger

د.نزيه الخياط*

عرفت العلاقة الكندية–الأميركية خلال السنوات الأخيرة تحوّلات نوعية أعادت إلى الواجهة مسألة السيادة وحدود الاعتماد الاستراتيجي في الفضاء الجيوسياسي لأميركا الشمالية. فقد شكّلت التصريحات الاستفزازية التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لا سيما تلك التي تناولت مستقبل كندا كوحدة سياسية مستقلة، لحظة كاشفة لاختلالات بنيوية في علاقة غير متكافئة تاريخياً، وأثارت نقاشاً وطنياً واسعاً حول موقع كندا ودورها ضمن منظومة الهيمنة الأميركية.

وقد أسهم هذا السياق في بلورة وعي وطني كندي أكثر تماسكاً، عابر للمقاطعات والانقسامات الحزبية، أعاد الاعتبار لمفاهيم الاستقلال الاقتصادي والسيادي، وفتح المجال أمام مقاربة استراتيجية جديدة لإعادة ضبط العلاقة مع الولايات المتحدة على أسس أكثر توازناً. في هذا الإطار، طرح رئيس الحكومة الكندية مارك كارني استراتيجية شاملة تهدف إلى تفكيك نمط التبعية الأحادية، وبناء دولة قادرة على حماية قرارها السيادي في عالم يتسم بتصاعد التنافس الجيوسياسي والاقتصادي.

تنطلق هذه الاستراتيجية من إدراك متكامل لتشابك التحديات التي تواجه كندا، من الاعتماد التجاري، والتغيرات المناخية والتحديات الجيواستراتيجية في القطب الشمالي، إلى التهديدات الأمنية العابرة للحدود والتحولات التكنولوجية العميقة، وتسعى إلى بناء نموذج دولة يجمع بين القوة الاقتصادية، والقدرة الدفاعية، والسياسة الخارجية المتوازنة، والأمن الداخلي المستقر.

أولًا: الاستقلال الاقتصادي وتنويع الشراكات

يشكّل تقليص التبعية البنيوية للسوق الأميركية أحد المرتكزات الأساسية في الاستراتيجية الكندية الجديدة. فبدل الارتهان الأحادي لشريك مهيمن، تسعى كندا إلى تنويع شبكاتها الاقتصادية باتجاه أوروبا، وآسيا، والدول العربية، وأفريقيا، بما يتيح هامش مناورة أوسع في مواجهة الأزمات والتقلبات العالمية.

ويعتمد هذا التوجّه على دعم الصادرات الكندية، وجذب الاستثمارات الأجنبية النوعية، وتشجيع الابتكار الصناعي المحلي، بما يساهم في بناء شبكة اقتصادية أكثر توازناً واستقلالية، قادرة على حماية الاقتصاد الوطني من الصدمات الجيو–اقتصادية.

ثانياً: السوق الوطنية وتكامل القدرة الإنتاجية

تدرك الاستراتيجية أن الاستقلال الخارجي لا يكتمل من دون تماسك داخلي. وعليه، يشكّل تعزيز السوق الوطنية وتكامل المقاطعات البيني محوراً أساسياً في تحصين القرار الاقتصادي والسياسي، عبر تطوير البنى التحتية للنقل والطاقة والاتصالات، وتسهيل حركة السلع والخدمات بين المقاطعات.

كما تسهم زيادة القدرة الإنتاجية الوطنية في رفع التنافسية، وتأمين فرص العمل، وتقليص الاعتماد على الواردات في القطاعات الحيوية كالأغذية والطاقة والصناعات التحويلية، ما يعزز مرونة الاقتصاد الكندي في مواجهة الصدمات الخارجية.

ثالثًا: الابتكار، الصناعة، واقتصاد المعرفة

تحتل الصناعات ذات القيمة المضافة العالية، والابتكار التكنولوجي، والطاقة النظيفة موقعاً مركزياً في الرؤية الاقتصادية الجديدة. فبناء اقتصاد قائم على المعرفة والقدرة التكنولوجية الذاتية يُعد شرطاً أساسياً للاستقلال الاستراتيجي في القرن الحادي والعشرين.

وتشمل هذه المقاربة دعم البحث العلمي، والتحول الرقمي، وتطوير الصناعات المدنية والدفاعية المتقدمة، بما يتيح خلق وظائف نوعية، وتعزيز القدرة التصديرية، وترسيخ مكانة كندا كفاعل تكنولوجي متوسط القوة، لا كمجرد سوق تابع للتقنيات الأجنبية.

رابعاً: السيادة الدفاعية وحماية القطب الشمالي

ترتبط السيادة الاقتصادية والسياسية ارتباطاً وثيقاً بالقدرة الدفاعية، لا سيما في ظل تصاعد التنافس الدولي والتحدي الجيواستراتيجي في القطب الشمالي. وتولي الاستراتيجية أهمية خاصة لحماية هذا الفضاء الجيوسياسي الحساس، عبر تطوير القدرات العسكرية، وتعزيز أنظمة المراقبة، والاستثمار في التكنولوجيا الدفاعية المتقدمة.

ويهدف هذا التوجّه إلى ضمان السيطرة الكندية على مواردها الطبيعية والممرات البحرية الاستراتيجية، وتعزيز استقلال القرار الدفاعي بعيداً عن أي ارتهان خارجي.

خامساً: التصنيع الدفاعي كرافعة سيادية واقتصادية

يمثّل تطوير التصنيع الدفاعي المحلي أحد الأعمدة الاستراتيجية لتعزيز الأمن القومي والاستقلال السيادي. فالاعتماد على قاعدة صناعية دفاعية وطنية يقلّل من التبعية للموردين الخارجيين، ويتيح استجابة أسرع وأكثر فاعلية للتحديات الأمنية.

ولا يقتصر دور التصنيع الدفاعي على البعد العسكري، بل يمتد ليشكّل رافعة اقتصادية وتكنولوجية، عبر نقل المعرفة، وتحفيز الابتكار، وخلق فرص عمل متقدمة في مجالات الهندسة والبحث والتطوير. كما يعزز قدرة كندا على المشاركة المتوازنة في التحالفات الدولية، دون التفريط باستقلال قرارها الوطني.

سادساً: سياسة خارجية متوازنة واستقلال القرار السياسي

تسعى الاستراتيجية الجديدة إلى انتهاج سياسة خارجية أكثر توازناً واستقلالية، تعكس المصالح الكندية وقيمها الإنسانية ، بعيداً عن الاصطفاف التلقائي خلف أي قوة كبرى. ويبرز ذلك في مقاربة كندا لقضايا الشرق الأوسط، بما في ذلك دعم الاستقرار، وحقوق الإنسان والاعتراف بالدولة الفلسطينية كما الدعوة إلى رفع العقوبات الكاملة عن سوريا.

ويعزز هذا التوجّه مكانة كندا كفاعل ديبلوماسي مستقل نسبياً، قادر على بناء شراكات متعددة الاتجاهات، وحماية مصالح جالياته المتنوعة، وتوظيف السياسة الخارجية كأداة سيادية بعيداً عن التبعية لا كامتداد لسياسات الآخرين.

سابعاً: الأمن الداخلي ومكافحة الجريمة المنظمة كشرط للاستقرار الاستراتيجي

يُعد الأمن الداخلي ركيزة أساسية في بناء دولة قوية ومستقلة، إذ لا يمكن تحقيق السيادة الاقتصادية أو الاستقرار السياسي في ظل تفكك أمني. وتولي الاستراتيجية أهمية خاصة لمكافحة الجريمة المنظمة، وغسل الأموال، والتهديدات العابرة للحدود، عبر تنسيق فعّال بين الحكومة الفيدرالية وحكومات المقاطعات.

ويمثّل تعزيز الأمن الداخلي وتطوير القوانين ذات الصلة شرطاً ضرورياً لحماية المجتمع الكندي، وضمان استمرارية التنمية، وترسيخ ثقة المواطنين بالدولة كمؤسسة قادرة على الحماية والضبط.

وعليه، تعبّر الاستراتيجية الكندية الجديدة عن مشروع متكامل لإعادة بناء الدولة على أسس أكثر استقلالية ومرونة في عالم يتجه نحو مزيد من التنافس وعدم اليقين. فهي لا تكتفي بإدارة التحديات الآنية، بل تسعى إلى إعادة تموضع كندا كقوة متوسطة وازنة، قادرة على حماية سيادتها، وتنويع شراكاتها، وتعزيز أمنها الداخلي والخارجي، بما يضمن مصالح الشعب الكندي واستدامة التنمية بما يتوافق وشروط حماية البيئة ومكافحة التلوث والانبعاثات في المدى الطويل.

*أكاديمي / باحث في الشؤون الجيوسياسية 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 12/23/2025 10:17:00 PM
أحد أبرز القادة العسكريين الذين قادوا مساعي توحيد المؤسسة العسكرية الليبية وعززوا علاقاتها الإقليمية والدولية.
المشرق-العربي 12/24/2025 10:00:00 AM
أراد يسوع بيت لحم بدون حواجز ولا قيود. أرادها مدينة تصدّر السلام من هذه البقعة الجغرافية إلى كل العالم.
المشرق-العربي 12/24/2025 12:33:00 PM
القوة مؤلفة من سيارتين إحداهما من نوع هايلكس والأخرى هامر عسكرية
شمال إفريقيا 12/24/2025 10:42:00 AM
مضى الحداد، الذي ينحدر من مدينة مصراتة ذات الثقل في صنع قرار غرب ليبيا، خلال السنوات الأخيرة عكس التيار، متمسكاً بحلم "توحيد المؤسسة العسكرية".