الاستثمار بدل بناء دول فاشلة… الولايات المتحدة تبتعد عن الشرق الأوسط دون أن تتخلّى عنه
في خطابه للأمة، عرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنجازات إدارته منذ دخوله البيت الأبيض قبل ما يقارب أحد عشر شهراً. والكلمة التي هي في الأساس موجهة للداخل، تطرّق فيها إلى ملف الشرق الأوسط من باب غزة، قائلاً: "أنهيت 8 حروب في عشرة أشهر، قضيت على التهديد النووي الإيراني، وأنهيت الحرب في غزة. وجلبت، لأول مرة منذ ثلاثة آلاف عام، السلام إلى الشرق الأوسط".
وفي استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي نشرها البيت الأبيض مؤخراً، جاء ملف المنطقة تحت عنوان بارز "الشرق الأوسط: نقل الأعباء وبناء السلام"، وتفصّل أن الولايات المتحدة تريد "منع قوّة معادية من السيطرة على الشرق الأوسط واحتياطاته من النفط والغاز، وعنق الزجاجة التي تمر عبرها، مع تجنّب الحروب الأبدية التي أغرقتنا في هذه المنطقة بكلفة باهظة".
وفي السياق، يقول أحد المستشارين السابقين في إدارة ترامب الأولى: "إن الولايات المتحدة لا يمكن إلّا أن تكون منخرطة في شؤون الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة تعتبر نفسها طرفاً مباشراً في أزمات وصراعات المنطقة".
نقل الأعباء وبناء السلام
تبيّن الاستراتيجية الأميركية أن هدف ديبلوماسية "أميركا أولاً" إعادة موازنة العلاقات التجارية العالمية. وتتابع في ملف الشرق الأوسط أنه "منذ ما لا يقل عن نصف قرن، منحت السياسة الخارجية الأميركية الأولوية للشرق الأوسط على حساب سائر المناطق". أمّا الأسباب الموجبة لذلك، بحسب الإدارة الأميركية الحالية، فهي أن "الشرق الأوسط أكبر مورِّد للطاقة في العالم، والساحة الرئيسية للتنافس بين القوى العظمى، ومسرحاً لصراعات كانت تهدد بالامتداد إلى بقية العالم وحتى إلى الأراضي الأميركية".
أمّا الأسباب التي باتت تقضي بـ"نقل الأعباء"، فهي أن هناك "ديناميكيتين على الأقل قد تلاشتا"، مع تنوّع إمدادات الطاقة بشكل كبير، و"عودة الولايات المتحدة لتصبح مُصدِّراً صافياً للطاقة".
هذا بالإضافة إلى أن "تنافس القوتين العظميين أفسح المجال لصراع النفوذ بين القوى الكبرى، تحتفظ فيه الولايات المتحدة بالموقع الأكثر تفضيلاً"، وأن هذا الموقع قد تعزّز "بفضل إحياء الرئيس ترامب الناجح لتحالفاتنا في الخليج، ومع شركاء عرب آخرين، ومع إسرائيل".
لكن، في المقابل، لا تغفل الاستراتيجية الجديدة، والتي تختلف في كثير من المواقع عن سابقاتها، أن "الصراعات لا تزال هي الديناميكية الأكثر إشكالية في الشرق الأوسط"، لكنها ترى أن هذه المشكلة باتت اليوم أقل خطورة. فـ"إيران، القوة الأكثر زعزعة للاستقرار في المنطقة، قد أُضعفت بشكل كبير بفعل الإجراءات الإسرائيلية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبفعل عملية مطرقة منتصف الليل التي نفّذها الرئيس ترامب في حزيران/ يونيو 2025، والتي أضعفت بدرجة كبيرة البرنامج النووي الإيراني".
وفي هذا الإطار، يقول أستاذ القانون الدولي والعضو السابق في المجلس الاستشاري للرئيس ترامب الدكتور غبريال صوما إن قضايا المنطقة تنوّعت في استراتيجية الأمن القومي، وأنه "بالإضافة إلى الاستثمارات الأميركية، فإن ترامب ركّز اهتمامه على مسألة مكافحة الإرهاب، وخشيته من أن تستهدف المنظمات الإرهابية المتواجدة في الشرق الأوسط المصالح الأميركية"، ويضيف أن الرئيس الأميركي اعتبر أن "مساندة الولايات المتحدة الأميركية لدول المنطقة لتحقيق التنمية سيسهم بلا شك في مكافحة الإرهاب والتطرف، لاسيّما أن التخلف والفقر يشكّلان بيئة مؤاتية لنمو وازدهار التطرف والإرهاب".

غزة: الحلّ والإشكالية
وفي سياق عرض الورقة الأميركية للأوضاع، تشير صراحة إلى أن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني "لا يزال معقّداً"، إنما بفضل وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن "تحقق تقدم باتجاه سلام أكثر ديمومة… وتبقى سوريا مشكلة محتملة، لكنها قد تستقر، بدعم من الولايات المتحدة والدول العربية وإسرائيل وتركيا، وتستعيد مكانتها كطرف فاعل وإيجابي متكامل في المنطقة".
لكنّ المشكلة قد تكون في صلب الدور المتضارب لكل من إسرائيل وتركيا، سواء في غزة، إذ ترفض تل أبيب أي مشاركة تركية في "قوة السلام"، أو في سوريا حيث باتت مسرحاً لتنافس على الدور الإقليمي.
وعن هذه الإشكالية، يقول صوما في حديثه مع "النهار" إن تركيا تعتبر إسرائيل "مسؤولة عن إبادة جماعية في غزة… ما أدى إلى قطع العلاقات الديبلوماسية وسحب السفراء"، ويضيف أن أنقرة تدعم حركة "حماس" سياسياً وإعلامياً، وهو ما تعتبره إسرائيل "تهديداً مباشراً لأمنها". ومن جهة أخرى، فإن الموقف التركي "يحظى بتأييد واسع في الشارع العربي والإسلامي، ما يدفع الحكومة التركية إلى تبنّي خطاب أكثر حدّة ضد إسرائيل".
في أيلول/ سبتمبر الماضي، نشر "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" مقالًا للممثل الخاص للولايات المتحدة لشؤون سوريا، السفير الأميركي السابق لدى تركيا والعراق جيمس جيفري، جاء فيه أن "ما يثير قلقاً خاصاً هو تزايد الاحتكاك في سوريا بين إسرائيل وتركيا. فالدولتان تتشابهان في نواحٍ عديدة، بوصفهما اقتصادين حديثين مرتبطين بالغرب وقريبتين من ترامب". غير أن الاحتكاك، أولاً بسبب غزة، والآن حيال مستقبل سوريا، "أفسد العلاقات بشدة، مع انتشار قوات البلدين داخل سوريا واحتمال وقوع حادث عنيف".
مخاوف جيفري تتقاطع مع تلك لدى العضو السابق في المجلس الاستشاري للرئيس ترامب، إذ يشير الدكتور صوما إلى أنه بعد سقوط نظام بشار الأسد، دخلت تركيا وإسرائيل في سباق نفوذ داخل سوريا: "تركيا توسّعت في شمال سوريا على حساب الأكراد، بينما إسرائيل كثّفت ضرباتها الجوية هناك لحماية مصالحها الأمنية. هذا التنافس جعل سوريا ساحة مواجهة غير مباشرة بين الطرفين، مع مخاوف من تحولها إلى صراع مفتوح". ويستطرد بأن تركيا فرضت إجراءات اقتصادية عقابية على إسرائيل، مثل تقييد التجارة والتعاون العسكري، فيما تتهم إسرائيل تركيا بعرقلة جهود الاستقرار في المنطقة، خصوصاً في سوريا.
الاستثمار بدل الأمم الفاشلة
بالعودة إلى الاستراتيجية الأميركية للأمن القومي، تقول: "يُظهر الشركاء في الشرق الأوسط التزامهم بمكافحة التطرف، وهي نزعة ينبغي للسياسة الأميركية أن تواصل تشجيعها. ويتطلب ذلك التخلي عن التجربة الأميركية غير الحكيمة المتمثلة في ترهيب هذه الدول، ولا سيما دول الخليج، لدفعها إلى التخلي عن تقاليدها وأشكال حكمها التاريخية". وترى أن مفتاح العلاقة المثمرة مع الشرق الأوسط هو "قبول المنطقة وقادتها ودولها كما هم، مع التعاون في مجالات المصالح المشتركة".
وعن المصلحة الأميركية، فهي تكمن في "ضمان ألّا تقع إمدادات الطاقة في الخليج في أيدي عدو معلن"، وأن يظل مضيق هرمز مفتوحاً، والبحر الأحمر سالكاً للملاحة، و"ألّا تصبح المنطقة حاضنة أو مصدّرة للإرهاب ضد المصالح أو الأراضي الأميركية، وأن تبقى إسرائيل آمنة".
ولتحقيق ذلك، بحسب الرؤية الأميركية، يجب مواجهة هذا التهديد على المستويين "الأيديولوجي والعسكري"، من دون الانخراط في عقود من حروب "بناء الأمم الفاشلة"، وأن المصلحة واضحة في "توسيع اتفاقيات أبراهام لتشمل دولاً أخرى في المنطقة ومن العالم الإسلامي".
وعن هذا كله، يوضح صوما أن الانخراط الأميركي في تفاعلات الشرق الأوسط لا يزال على أجندة أولويات السياسة الأميركية وإن تراجع نسبياً، "كما أن إسرائيل، الحليف الاستراتيجي، لا تزال بمثابة رهينة في الإقليم تدفع بالسياسة الأميركية نحو مزيد من الانخراط لا التراجع".
وتختم الاستراتيجية الأميركية قراءتها لواقع هذه المنطقة بأن الحقبة التي كان فيها الشرق الأوسط يهيمن على السياسة الخارجية الأميركية، سواء في التخطيط طويل الأمد أو في التنفيذ اليومي، "قد ولّت لحسن الحظ، لا لأن الشرق الأوسط لم يعد مهماً، بل لأنه لم يعد مصدر الإزعاج المستمر والكوارث الوشيكة التي كان يشكّلها سابقاً". وبالمقابل، بات يُنظر إليه على أنه مكان "للشراكة والصداقة والاستثمار، وهي نزعة ينبغي الترحيب بها وتشجيعها". وتشير مباشرة إلى أن قدرة ترامب على توحيد العالم العربي في شرم الشيخ سعياً للسلام والتطبيع ستُمكّن الولايات المتحدة أخيراً من إعطاء الأولوية للمصالح الأميركية.
نبض