سلام وحرب في عهد ترامب... تناقضات في السياسة الخارجية الأميركية
بينما يقدّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه كصانع سلام قادر على إنهاء صراعات معقّدة خاصة بعد اتفاق السلام بين رواندا والكونغو أمس الخميس، تكشف تحرّكات صدامية للإدارة الأميركية في منطقة أخرى عن وجه آخر أكثر حدّة. هذا التناقض اللافت يثير تساؤلات جوهرية حول مدى اتساق سياساته الخارجية وحدود سرديته "كرجل سلام".
وخلال يوم واحد، ظهر وجهان متناقضان للرئاسة الأميركية الخميس فيما ترأس ترامب اتفاق سلام بين الكونغو ورواندا في نفس اليوم الذي تم فيه استجواب إدارته بشأن جرائم حرب محتملة. من جهة، دعا ترامب العالم إلى إعطاء السلام فرصة في اجتماع مع قادة أفريقيين، ومن جهة ثانية، تعرض كبار المسؤولين في البنتاغون لاستجواب من قبل المشرعين حول جرائم حرب محتملة.
وقال تحليل لصحيفة "نيويورك تايمز" إن واشنطن في عهد ترامب مليئة بالتناقضات، لكن التنافر المعرفي الذي ظهر يوم الخميس كان حاداً بشكل خاص. فقد ترأس ترامب اتفاق سلام بين البلدين الأفريقيين داخل معهد الولايات المتحدة للسلام، الذي أعيدت تسميته ليحمل اسمه، في خطوة رمزية أثارت سخرية بعض المسؤولين. ووصف ترامب، الذي عقد العزم على الفوز بجائزة نوبل للسلام، الاتفاق بأنه إنجاز كبير ويستحق الاهتمام، بينما حذر خبراء من أن الاتفاق يظل رمزيا ولم يوقف القتل على الأرض.
في المقابل، كان مسؤولون كبار من قادة العمليات الخاصة في اجتماع مغلق مع كبار أعضاء الكونغرس الذين يشعرون بالقلق إزاء الضربات التي شنتها واشنطن على قوارب اتهمتها بنقل المخدرات في البحر الكاريبي، والتي أسفرت عن سقوط قتلى مدنيين، ما أثار جدلًا بشأن إمكانية اعتبارها جرائم حرب. دافعت إدارة ترامب عن الغارات بحجة أن من استُهدفوا يعتبرون "مقاتلين".
بدورها، رأت شبكة "سي ان ان" أن مراسم يوم الخميس جسدت التناقضات في سياسة ترامب الخارجية "التي تهدد في الوقت نفسه القيم الدستورية، وتعزز الاستبداديين، وترفض الحلفاء، وتهدم المؤسسات والأنظمة العالمية التي حافظت على السلام لعقود. وذكّرت الشبكة بأن ترامب قد هدد بقصف أهداف برية في فنزويلا ووصف أخيراً المهاجرين الصوماليين بـ"القمامة" وهدد بعض الديموقراطيين من ارتكابهم سلوكاً تحريضياً. وقالت إن بينما كان ترامب يتحدث عن السلام في واشنطن، كثفت القوات الأميركية هجماتها على قوارب يُزعم أنها تهرب المخدرات في البحر الكاريبي في حملة يقول منتقدوها إنها غير قانونية وأسفرت عن مقتل مدنيين.
يقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعتي الحكمة والجامعة اللبنانية نبيل الخوري لـ "النهار": "تتبنى واشنطن نهجاً أكثر تصادمياً في فنزويلا لأنها تقع في حديقتها الخلفية وما كان يسمى بمنطقة النفوذ الأميركية التي فرضتها واشنطن منذ عقيدة مونرو عام 1823، ومن خلال سياسة العصا التي اتبعتها تجاه كل دولة في أميركا الوسطى وأميركا اللاتينية ترفض أن تطيعها وأن تخضع لهيمنتها".
ويضيف: "في نظام دولي تشتد فيه المنافسة بين الولايات المتحدة والصين وإلى حد ما روسيا، يريد ترامب التخلص من نظام فنزويلي مشاكس وغير مطيع، بغض النظر عن مدى قدرة هذا النظام على تشكيل تهديد نوعي للمصالح الأميركية. لكن في المقابل، إذا تمكن ترامب من إعادة ضم فنزويلا إلى دائرة النفوذ الأميركي، سيحقق بالتالي مكاسب مطلقة مؤكدة".

ويتابع الخوري: "الواقعيون في العلاقات الدولية يبررون مثل هذه السياسات بالقول إن أي دولة عظمى لن تقبل بوجود أي تهديد أمني في جوارها، على غرار تبريراتهم للسياسة الروسية في جوارها وفي أوكرانيا. والحال أن أميركا تسعى لضبط إيقاع الصراعات العالمية بما يخدم مصالحها، خصوصاً في حديقتها الخلفية"، لافتاً إلى أن "هذا ما يعزز فرضية شن حرب، خصوصاً إذا كانت حسابات واشنطن تجزم بأن العملية ستكون سريعة ومنخفضة الكلفة وبأنها لن تؤدي إلى غرق الجيش الأميركي في مستنقع جديد يصعب الخروج منه".
ويقول: "في هذه الحالة ستتعزز وضعية صانعي القرار المؤيدين للحرب في الإدارة الأميركية. وإذا وقعت حرب كهذه وكسبتها واشنطن، سيكون لها تداعيات على الوضع في القارتين الأميركيتين، من كولومبيا الى المكسيك وكندا وربما أبعد من ذلك وصولاً إلى غرينلاند".
ويهدف الاتفاق بين رواندا وجمهورية الكونغو الديموقراطية إلى إنهاء حرب أودت بحياة الكثيرين في وسط أفريقيا. هذه الحرب هي واحدة من ثمانية صراعات يقول ترامب إنه حلها بالفعل خلال فترة رئاسته.
وأقرت "سي إن إن" أن في بعض هذه الصراعات، مثل غزة، لعب ترامب دوراً حاسماً ويستحق فوزاً حقيقياً في السياسة الخارجية. لكن في أماكن أخرى، ترى أنه يبالغ في دوره في إخماد القتال.
وتابعت: "في بعض الحالات، قدم ترامب مساهمات مهمة، واستخدم القوة الأميركية بذكاء، وأنقذ أرواحاً بلا شك. يبدو أنه يكره الحرب حقاً. فهو كثيراً ما يعبّر عن دهشته من عبثية إراقة دماء المدنيين. كما يمتلك قدرة لافتة على تبسيط هذه الحقائق بلغة مباشرة وواضحة، بطريقة تعجز عنها كثير من القيادات العالمية. وعندما يقول أمين عام الناتو مارك روته إن ترامب هو الشخص الوحيد في العالم القادر على إنهاء حرب أوكرانيا، فربما يكون محقاً".
لكن هذا لا يعني أن جهوده المتعددة لتحقيق السلام تنجح جميعها. لقد بدا مراراً أنه يحاول فرض سلام يصب في مصلحة المعتدي، أي روسيا، بدلاً من الطرف المعتدى عليه، أوكرانيا، بحسب الشبكة الأميركية. وفي أحيان أخرى، بدا أنه يجهل القضايا التاريخية والوقائعية الرئيسية ويريد ببساطة التوصل إلى اتفاق، أي اتفاق، يمكنه أن يدعي أنه انتصار آخر.
ويقول الاستاذ المحاضر في كلية الأركان في الجيش اللبناني وأستاذ في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدكتور اياد سكرية لـ"النهار": "اليوم من الخطأ أن نقدم توصيفاً نهائياً وواضحاً لسياسة ترامب الإقليمية والدولية. فهو رجل أعمال قبل كل شيء، ولا يملك خطوطاً حمراء ثابتة، يسعى دائماً لتحقيق نتائج ويضع مصلحة أميركا أولاً. أحياناً يتبنى ديبلوماسية القوة، وأحياناً قوة الديبلوماسية، وأحياناً شرعية القوة، وأحيااً قوة الشرعية. سياسته الخارجية تتحرك بين الحد الأدنى والحد الأقصى، فهو يفاوض العدو، وأحياناً يضغط على الصديق، وما يهمه هو النتيجة".
ويضيف سكرية: "تركز السياسة الخارجية لترامب على الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وهي جنوب أميركا، مثل فنزويلا والأرجنتين، مع الحفاظ على مرونة معينة حسب الظروف. يركز أيضاً على موضوع الشرق الأوسط".
ويشير الى أن "مع ذلك، سياسته ليست قائمة على الديبلوماسية وحدها، بل على مزجها مع القوة عند الحاجة. إذا لم تلتزم فنزويلا بمطالبه، فهو مستعد للتحرك عسكرياً. باختصار، سياسة ترامب مزيج بين المرونة والصرامة، ولا يمكن اختزالها في توصيف واحد".
نبض