ديك تشيني أو الإفراط في تصحيح الخطأ
كان الجواب صادماً؛ تحديداً في لامبالاته.
"يقول ثلثا الأميركيين إن الحرب (في العراق) لا تستحق القتال".
"إذاً؟!".
"إذاً؟ ... أنت لا تهتم بما يفكر به الأميركيون؟".
"لا، أعتقد أنه لا يمكنكِ الانحراف عن المسار بفعل تقلبات الرأي العام".
هل كان رد ريتشارد "ديك" تشيني على الإعلامية مارثا راداتز سنة 2008 ضرباً من ضروب الازدراء بموقف الأميركيين من الحرب؟
ليس تماماً. بحسب بارتون جيلمان، مؤلف كتاب "صياد: نيابة رئاسة تشيني"، شبّه تشيني الذي رحل الاثنين عن 84 عاماً الديموقراطية بحق الناس في اختيار جرّاحهم الخاص. فبمجرد حصول ذلك، لا يستطيعون التدخل في كيفية استخدام مبضعه.
وربما كان محقاً
بعد أعوام من الإخفاق، بدأت الولايات المتحدة تستعيد زمام الأمور في العراق سنة 2008 بالتحديد. فبين حزيران/يونيو 2007 و2008، قدرت الولايات المتحدة انخفاض "الهجمات التي شنها العدو" بمقدار 80 في المئة. كان ذلك من نتائج خطة "الطريق الجديد للمضي قدماً" التي أطلقها الرئيس الأسبق جورج بوش الابن بداية 2007 والتي شملت، من جملة ما شملته، زيادة كبيرة في حجم القوات الأميركية بلغت 30 ألف جندي إضافي. وكانت 2006 السنة الأكثر عنفاً في العراق منذ إطاحة صدام حسين.
لكن ذلك لا يجيب على السؤال بالضبط. فزيادة عدد القوات الأميركية كانت حلاً لمشكلة لم تنشأ إلا بسبب الغزو الأميركي في المقام الأول، والذي كان تشيني أحد أبرز الدافعين باتجاهه. وقد يملك ديفيد فروم، كاتب خطابات بوش الابن، أجوبة عدة على حماسة نائب الرئيس الراحل حيال الحرب.
المشكلة لن تعالج نفسها
بحسب فروم، قاد تشيني حرب العراق الأولى (1991) فطرد صدام من الكويت، لكن الإدارة توقعت أن يقوم الشعب أو الجيش العراقي بإسقاط نظامه. تعلّم تشيني أن المشكلة لن تعالج نفسها، كما كتب فروم في مجلة "أتلانتيك". الخطأ الثاني الذي بالغت الإدارة في تصحيحه هو أنها تعهدت بعدم تجاهل أي خطر كما فعلت عشية 11أيلول/سبتمبر. ويوضح الكاتب أن بوش الابن تعلم من تجربة والده المريرة حين خسر انتخابات 1992، بالرغم من إنجازاته الخارجية. لذا، قرر تخصيص ولايته الأولى للملف الاقتصادي، لكن الهجمات غيّرت سياسته.
ليس ذلك تحليلاً استثنائياً لتصور إدارة جورج بوش الابن تجاه العراق. قدّم كتاب "مواجهة صدام حسين: جورج دبليو بوش وغزو العراق" (2023) للمؤرخ ميتشل ليفلر خلاصة مشابهة عن أن بوش وإدارته تخوفا مما أمكن أن يفعله صدام، بما أن إمكاناته كانت أكبر من إمكانات "القاعدة".
إنها القاعدة
يفسر تأرجح الولايات المتحدة بين الانعزال والتدخلية قاعدة الوقوع في فخ "التصحيح المفرط". فمستنقع العراق دفع الرئيس باراك أوباما إلى إخراج قواته منه بشكل مبكر فأطاح بالاستقرار النسبي المتأخر الذي صنعه بوش. والتدخل في ليبيا قابله الهروب من سوريا. حتى في وقت سابق، أدى فشل التدخل الأميركي في الصومال سنة 1993 إلى عدم تدخل أميركا في البوسنة ورواندا. واللائحة تطول.
لم تساعد شخصية تشيني في ترك ذكرى إيجابية بعد وفاته. أبدى بوش الابن ندماً في مذكراته على حرب العراق. بالمقابل، لم يندم تشيني. وثمة سبب وجيه لذلك بحسب البعض. يرى مايكل روبين من "معهد المشروع الأميركي" أن تشيني هو من المدرسة القديمة: يتخذ موقفاً ثم يقود أميركا نحو فوز بلا اعتذار. لقد فهم أن الحكم "ليس خوارزميات"، أي أن المبدأ السياسي لا يتأثر بتقلبات الرأي العام والصحافة. بحسب روبين، فاز تشيني على المدى الطويل لأن العراق اليوم، بحسب ما شاهده من زياراته المتكررة له، أفضل من عراق صدام.
لكن حتى على المستوى الشخصي، نادراً ما كان تشيني يعتذر عن أخطائه. سنة 2006، أصاب صديقه هاري ويتينغتون بعيار ناري في رحلة صيد، عن طريق الخطأ. توفي الأخير سنة 2023 من دون أن يسمع اعتذاراً من تشيني. لسخرية القدر، كان ويتينغتون هو الذي اعتذر.
نبض