ترامب يطبق بيده الفيدرالية على واشنطن… والعاصمة تعترض

قبل أن يأتي إليها أول مرة، كان دونالد ترامب يتوعد واشنطن العاصمة. كان يرى فيها مستنقعاً سياسياً آسناً سيجفّفه حين يصير رئيساً. دخل العاصمة بخطاب عاصف حين تسلّم مفاتيح البيت الأبيض من سلفه باراك أوباما ظهر 20 كانون الثاني/يناير في العام 2017. أمضى أربع سنوات من العراك مع واشنطن، وفي شوارعها التي شهدت أضخم تظاهرات ضدّه، على رأسها حركة "حياة السود مهمّة"، وصولاً إلى الفرح الهستيري الذي عم شوارعها واستمر أمام البيت الأبيض حتى ساعة متأخّرة من الليل، يوم رجّحت وسائل الإعلام فوز جو بايدن بالرئاسة في العام 2020، بعد أيام طويلة من الانتظار.
ومع أنه صرّح مراراً بأنه لا يكنّ للمدينة الودّ الكثير، فإنه أبى أن يخرج منها مهزوماً، وظلّ ينفخ في البوق حتى اقتحم أنصاره في 6 كانون الثاني/يناير 2021 الكابيتول، وكان ما كان مما بدا في حينه أن ترامب خرج من واشنطن ولن يعود.
عاد، مع ذلك، أقوى بمراحل من أول مرة. وبعدما عاث إيلون ماسك بموظفيها الفيدراليين طرداً، وبعدما وضع ترامب يده على أيقونتها الثقافية، متاحفها و"مركز جي أف كينيدي للفنون"، وسيطر على وكالاتها وأجهزتها الفيدرالية، آن أوان "تجميلها" بقرار تنفيذيّ يضع الشرطة تحت السلطة الفيدرالية وإنزال جنود الحرس الوطني إلى الشوارع لتخليصها من المشرّدين والجريمة، مدعومين بعناصر مقنّعين من دائرة الهجرة والجمارك وآخرين من الـ"أف بي آي".
تحوّلت شوارع العاصمة كما محاكمها إلى مسرح للعبة شدّ حبال بين ترامب وإدارته من جهة، والسلطات المحلية في المدينة، من العمدة نويل باوزر إلى رئيسة الشرطة باميلا سميث، من جهة أخرى.
ترامب الذي استند إلى قانون يعود إلى العام 1973 نشر 800 عنصر من الحرس الوطني في العاصمة، التي لم يحبّذ ساستها يوماً الظهور العلني للّباس العسكري المموّه بين أبنيتها المتفاخرة بمدنيّتها وديموقراطيّتها.
حجة ترامب في قراره، الذي يفترض بتنفيذه ألا يستمر أكثر من ثلاثين يوماً، أن معدلات الجريمة بلغت حداً غير مسبوق مع اجتياحها من عصابات عنيفة ومجرمين متعطشين إلى الدماء، معلناً أن تحرير العاصمة بدأ.
واشنطن التي يبلغ عدد سكانها 700 ألف نسمة، نحو 40 في المئة منهم من الأفارقة الأميركيين، تعاني أحياؤها الفقيرة من الأزمات المشابهة لمعظم المدن الأميركية. لكن الوضع ليس بالحجم الذي صوّره ترامب، بحسب باوزر، التي أشارت إلى انخفاض معدلات الجرائم العنيفة مع نهاية الشهر الفائت إلى أدنى مستوى لها منذ أكثر من ثلاثين سنة.
انتشر جنود الحرس الوطني عند نصب تذكارية، وفي متنزهات عامة فيدرالية، حيث اقتصرت مهامهم على طمأنة السياح والسكان معاً، والقيام بأعمال لوجستية كي تتفرغ القوى الأخرى لمهامها.
في موازاتهم، نشط نحو 850 عنصراً من وكالات الهجرة والأمن القومي والكحول والأسلحة والمخدرات والخدمة السرية وشرطة المتنزهات وغيرها. ونصبت الشرطة والوكالات حواجز تفتيش مفاجئة في شوارع العاصمة حيث ألقي القبض على عشرات بتهم راوحت ما بين الهجرة غير الشرعية وحيازة أسلحة وموادّ مخدّرة وغيرها. أما المشرّدون فتكفلت بهم شرطة المتنزهات ونقلتهم إلى "أماكن" أخرى، ومن لم يمتثل حُوّل إلى السجن.
وسرعان ما بدأ شهود عيان ينشرون فيديوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي لعمليات الاعتقال، منها واحد لمجموعة ملثمين تصارعوا مع عامل توصيل ديليفري قبل أن يطرحوه أرضاً ويكبلونه بالأصفاد وسط سخط مضبوط من متفرجين، لم يتعدّ الاعتراض اللفظي.
العاصمة سجّلت السبت الفائت تظاهرة، شارك فيها المئات ضد ترامب وإجراءات إدارته، مشت إلى البيت الأبيض، وهتف خلالها المشاركون مطالبين برحيل ترامب "الآن"، ولا للهجرة، ولا للحرس الوطني. وفي المقلب المعارض نفسه، سجّل خصومه انتصاراً حين تراجعت وزيرة العدل بام بوندي عن وضع شرطة العاصمة تحت أمرة مدير وكالة مكافحة المخدرات بدلاً من الرئيسة الحالية باميلا سميث. تراجع بوندي جاء بعد قرار من القاضية الفيدرالية آنا رييز، التي تنظر في دعوى مرفوعة من مدعي عام العاصمة براين شوالب ضد الإجراءات التي اتخذتها الإدارة.
القاضية وصفت قرارها بأنه يفسح المجال أمام هدنة بين الطرفين، يبدو أنها لن تستمر طويلاً، وتقوم بين مسؤولي المدينة المحليين وفيدرالييها، وكلاهما يتشاركانها، غصباً عنهما. وقد أثبت الماضي، كما الحاضر، استحالة التعايش بينهما تحت سقفها الواحد.