ما الذي جعل العسكري الأميركي شمس الدين جبار داعشياً؟

في الساعات الأخيرة قبل تنفيذ اعتدائه في شارع بوربون في نيو أورلينز، أعلن شمس الدين جبار "البيعة" لتنظيم "داعش".
بعدها، وفي الساعات الأولى من يوم الأربعاء الأول من كانون الثاني (يناير) من العام الجديد، اجتاح بشاحنة فورد كهربائية المحتفلين برأس السنة في الحي الفرنسي من المدينة السياحية في ولاية لويزيانا، حيث قتل، من دون تمييز لعرق أو جنسية أو دين، 15 محتفلاً، وبثّ الرعب في طول أميركا وعرضها، لا سيما أن أوّل الأدلة على نواياه "الإرهابية" تمثّل براية التنظيم التي وجدت معه.
مكتب التحقيق الفيديرالي والإعلام الأميركي يبحثان منذ تنفيذ العملية عمّا إذا كان "ذئباً منفرداً"، أو أن العملية تأتي ضمن عمل منظّم. المعلومات المتاحة حتى الآن تشير إلى أنه زار القاهرة ثمّ كندا خلال عام 2023، وزار نيو أورلينز مرتين في شهري تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر)، حيث تجوّل أوّل مرة على دراجة هوائية مرتدياً نظّارة ذكيّة صوّر بكاميرتها المنطقة التي استهدفها لاحقاً.
بحث موازٍ يدور حول أسباب جنوحه المفاجئ نحو عقيدة التنظيم المتطرف، وهو الأفريقي الأميركي المولود لوالدين مسيحيين، قبل أن يعتنق الأب الإسلام، وتبقى الأم على دينها، فيما لم يمارس علناً على الأقلّ الشعائر الإسلامية طوال حياته، وكان انخراطه في حياة اللهو والسهر وشرب الكحول سبباً في خسارته منحتَه وتوقفه عن التحصيل الجامعي ثم الانضمام إلى الجيش.
حتى بعدما بدأت تظهر عليه علامات تديّن متجدّد خلال سكنه أخيراً في أحد البيوت الصغيرة النقالة في شمالي هيوستن، لم يكن يرتاد أياً من المسجدين القريبين من مكان إقامته بين أغلبية مسلمة.
احتفظ بداعشيته لنفسه إذن، مستخدماً الإنترنت، وهي الوسيلة الأكثر استخداماً للانزلاق في "حفرة الأرنب" والوصول إلى قناعات شديدة التطرّف، تؤمن بالعنف وسيلة وحيدة لتحقيق الغايات، من دون فرق إذا ما كان الغارق في الحفرة مؤمناً بالإسلام، أو بتفوّق العرق الأبيض، أو بأن أميركا تحكمها رأسمالية شركات مطلقة الجشع ستقضي عليها.
كريستوفر رايا، الخبير في مكافحة الإرهاب في مكتب التحقيقات الفيدرالي، قال تعليقاً على حادثة نيو أورلينز إن "هؤلاء الذين يتشددون من خلال تصفح الإنترنت، ويمكنهم الوصول بسهولة إلى الأسلحة، ويتحركون بمفردهم، هم الخطر الإرهابي الأكبر على أميركا".
لكن لماذا ينساق عسكري متقاعد في الثانية والأربعين من عمره، ويمارس عملاً يدرّ عليه نحو 120 ألف دولار سنوياً، إلى مبايعة "داعش"؟
خلف السيرة الذاتية الناجحة لأميركي في مقتبل الأربعينات، ثمة تعقيدات اجتماعية اقتصادية جمّة. فعلى رغم مدخوله المرتفع نسبياً، فإنه يرزح منذ زمن تحت أزمة نفقات ثلاثة أولاد وثلاثة طلاقات، وواقع تحت عجز يبلغ نحو 27 ألف دولار من الأقساط الشهرية لبيته المهدّد باستحواذ البنك عليه.
صعوبات اقتصادية واجتماعية تضاف إليها معضلة أميركية متأصّلة خاصة بالمتقاعدين من الخدمة العسكرية، الذين يجدون أنفسهم، في العقد الثالث أو الرابع من أعمارهم، مضطرين إلى بدء حياة جديدة كلياً عليهم؛ والكثير منهم لا يعلم أصلاً أنه مصاب باضطراب ما بعد الصدمة. القاعدة ليست أن كلّ متقاعد هو مشروع مجرم ومدمن مخدرات وكحول. حالات ارتكاب متقاعدين جرائم بسبب التطرف تعتبر قليلة جداً، إذا قيست بمجموع عدد المتقاعدين (18 مليوناً)، ومن هم في الخدمة حالياً (مليونان). مع ذلك، فهؤلاء يصيبون نجاحاً أكبر في تنفيذ عملياتهم، أي يحصدون ضحايا أكثر، ممن لا خبرة عسكرية سابقة لديهم.
"بعد التقاعد، يشعرون فجأة بأنهم خسروا أهدافهم وجدواهم وانتماءهم"، يقول عسكري متقاعد، ومدير مركز لمساعدة أترابه لـ"وول ستريت جورنال"، فلا يجدون راحة إلا في اعتناق عقائد متطرّفة تصير قضيّة وجودهم. شمس الدين جبار قد يكون من هؤلاء الذين منهم أيضاً 230 متقاعداً اعتقلوا بعد مهاجمة الكونغرس في السادس من كانون الثاني، قبل أربع سنوات بالتمام والكمال. هؤلاء لم تكن "الموسيقى الشيطانية" مشكلتهم، ولا الشارع السياحي، بل كان هدفهم إيقاف "مؤامرة سرقة" الانتخابات الرئاسية من بطلهم الشعبيّ دونالد ترامب.
في سياق متّصل، كان تفجير سيارة تسلا أمام فندق ترامب في لاس فيغاس، بعد ساعات من هجوم نيو أورلينز. ماثيو ليفلسزبرغر (37 سنة) الذي أنهى حياته بطلقة في الرأس، وهو في داخل السيارة، عسكري في الخدمة، قال في بريد إلكتروني إلى أحد أصدقائه إن فعلته هي بمثابة "إنذار لإيقاظ رفاقه الحاليين والمتقاعدين وكل الأميركيين" أن "أميركا ذاهبة إلى الخراب، لأن إدارة ضعيفة تقودنا".
ليفلسزبرغر الذي خدم في العراق وأفغانستان، وتعرّض لإصابة في الرأس، كان يعاني - بحسب صديقته - من حالات نسيان، ولازمه شعور بالذنب بسبب مَن قتلهم، إضافة إلى ضربة لم يستطع تخطّيها قامت بها القوات الأميركية على منشأة في أفغانستان، وأدّت إلى عشرات القتلى، مع أن لا أحد ممن يعرفونه توقّع أن تكون حالته قد ساءت إلى درجة إقدامه على تفجير سيارة والانتحار. لكن أعراض اضطراب ما بعد الصدمة كانت واضحة عليه، إضافة إلى بارانويا جعلته يتخيّل مؤامرات تشترك فيها مسيّرات صينية وأميركية تعمل وفق تكنولوجيا مضادّة للجاذبية.
ليفلسزبرغر قتل نفسه في إجازة كان يفترض أن يعود بعدها إلى عمله عسكرياً في خدمة الأميركيين. رسالته التي اقتصرت على قتل نفسه فقط، بعكس رفيقه المتقاعد جبار، ستجد الكثير ممن يتعمّق في قراءتها في البنتاغون، فهي تعكس أزمة لا تميّز بين أسود وأبيض، وبين عسكري حالي وآخر متقاعد.