لماذا تراجعت تركيا عن عمليتها الواسعة ضد "قسد" في شمال سوريا؟
تراجعت تركيا عن تنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق ضد قوات سوريا الديموقراطية (قسد) في شمال سوريا، رغم التهديدات المتكررة، بسبب خطوط حمراء دولية جعلت التكلفة الجيوسياسية والعسكرية للمضيّ قدماً أكبر من المنفعة وفق ما يرى مراقبون.
هذا التراجع، ربما ليس تجميداً كاملاً للأهداف، بل تحوّل استراتيجي من الغزو المباشر (المرفوض أميركياً وروسياً) إلى الاعتماد على استراتيجية الضربات الجوية المركزة، بهدف إضعاف البنية التحتية لقوات سوريا الديموقراطية (قسد) وإجبارها على الاندماج في الجيش السوري النظامي، وهو الهدف التركي المعلن الذي يجري التفاوض بشأنه مع دمشق، كبديل أقل تكلفة لتحقيق الأمن الحدودي.
وأصبحت تكلفة المخاطرة بعقوبات أميركية جديدة، أغلى بكثير من مكاسب التوسّع البرّي، وتحوّلت الاستراتيجية من "الاحتلال المباشر" إلى "الإخضاع المنهجي" عبر الضربات الجوية، ما يشير الى أن الأمن التركي يُحسم الآن في غرف عمليات ديبلوماسية ومالية أكثر مما يُحسم في ساحات القتال.
من أزمير التركية، يقدّم الباحث والكاتب السياسي أحمد أحمد تحليلاً مفصّلاً للعوامل المعقدة التي تشلّ وتكبح القرار التركي نحو شنّ هجوم عسكري واسع النطاق ضد قسد.
ويربط أحمد في حديثة لـ"النهار" التردد التركي بالتحديات الأمنية الداخلية المتوقعة، والانقسامات السياسية العميقة في أنقرة، والضغط الاقتصادي غير المسبوق الذي تعيشه البلاد، بالإضافة إلى القدرات العسكرية المتزايدة لـ"قسد".
/WhatsApp%20Image%202025-12-13%20at%2010.39.37%20AM.jpeg)
مخاوف تركية من تمدّد الصراع والضغوط الداخلية والخارجية
يشير أحمد إلى أن الغياب الظاهر لأيّ خطة عسكرية تركية وشيكة ضد "قسد" يعود إلى سلسلة من الاعتبارات الاستراتيجية والاجتماعية التي تدركها أنقرة جيداً، وهي:
انتقال دائرة الصراع: تدرك القيادة التركية أن أي عملية عسكرية ضد "قسد" ستؤدي حتماً إلى انتقال الأعمال القتالية إلى داخل الأراضي التركية، وربما تمتد إلى داخل العراق أيضاً.
عقبات السلام الداخلي: تخشى تركيا أن يؤثر الهجوم سلباً على المفاوضات الجارية مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، بما يهدد عملية السلام والاستقرار الداخلي.
الروابط الاجتماعية العائلية: هناك علاقات عائلية قوية تربط الكرد في جنوب شرق تركيا (شمال كردستان) بالكرد في شمال شرق سوريا (غرب كردستان)، ما يجعل أي تصعيد عسكري قضية داخلية حساسة للغاية.
حسابات إقليمية: لا تريد أنقرة أن تضع الرئيس السوري أحمد الشرع في موقف حرج، خاصة أن الإدارة الانتقالية في سوريا لا تزال تواجه تحديات، وأي هجوم تركي قد يمنح إسرائيل "ضوءاً أخضر" لتصعيد عملياتها في جنوب سوريا.
كذلك تبرز قدرة "قسد" على الردع، حيث تمتلك حالياً أسلحة متطورة تشكل قوة لا يستهان بها.
وأشار الباحث التركي إلى تقرير أميركي حديث يؤكد قدرتها على ضرب طائرات تركية بدون طيار، ما سيكبّد تركيا خسائر اقتصادية تجاوزت 130 مليون دولار.
الأزمة الاقتصادية والعمق التركي: العوائق أمام أردوغان
لا يقتصر التردد التركي على المخاطر الخارجية فقط، بل يغذيه خليط من التحديات الداخلية التي تضعف قدرة الرئيس رجب طيب أردوغان على اتخاذ قرار الحرب:
الوضع الاقتصادي والبطالة: تمر تركيا بأسوأ أزمة اقتصادية واجتماعية منذ سنوات، حيث شهدت الليرة التركية تراجعاً كبيراً أمام الدولار خلال العقد الأخير، مع ارتفاع غير مسبوق في نسب التضخم والبطالة.
كذلك، تعارض قوى المعارضة الداخلية أي عمل عسكري ضد "قسد"، رافضة التسبّب بحرب أهلية أو إقليمية.
ويدرك أردوغان أن الحفاظ على سلطته يتطلب استرضاء الكرد في تركيا، خاصة بعد تراجع أصوات حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة وفقدان الثقة الشعبية به.
يرى أحمد أيضاً، أن تركيا والدولة العميقة فيها هما العائق الرئيسي أمام تنفيذ "اتفاقية 10 آذار" (المتعلقة بالتفاهمات في الشمال السوري). وهناك انقسام واضح في الرؤى بين حكومة العدالة والتنمية التي تدعو لاندماج "قوات سوريا الديموقراطية" مع حكومة دمشق والدولة العميقة (دولت بهجلي) التي ترفض هذا الاندماج، معتبرة إياه تهديداً جديداً للأمن القومي التركي.
نبض