عام حاسم لنتياهو المناور... هل ينجو سياسياً تحت ضغط الأزمات الداخلية والخارجية؟
على مدى سنوات طويلة في الحكم، رسّخ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو أسلوباً قائماً على تأجيل القرارات وإدارة الأزمات بدل حسمها. لكن تراكُم الضغوط القضائية والسياسية والأمنية، داخلياً وخارجياً، يضعه اليوم أمام مرحلة مفصلية قد تختبر حدود هذه الاستراتيجية مع اقتراب عام انتخابي حاسم.
الجميع تقريباً يعرف أسلوبه في الحكم بعد فترة طويلة له في السلطة. فهو يؤجل اتخاذ القرارات. ويبقي الخيارات مفتوحة لأطول فترة ممكنة ويخلق خيارات جديدة كلما أمكنه ذلك. يستنزف خصومه ويصبر عليهم ويتفوق عليهم في البقاء. لكن الأحداث تتوالى بطريقة قد تضعف حتى قدرته المعروفة على تأجيل القرارات الصعبة وتشكيلها لصالحه، بحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز".
يتزايد الضغط عليه من كل اتجاه. تتقدم محاكمته الجنائية بشكل لا رجعة فيه. وتتقدم خطة الرئيس الاميركي دونالد ترامب للسلام في غزة ببطء نحو المرحلة الثانية الصعبة، وتتصاعد التوترات مع البيت الأبيض بشأن تصرفات إسرائيل في سوريا ولبنان. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن نتنياهو يتجه نحو الهزيمة في انتخابات العام المقبل.
ويشمل الضغط أيضاً اليمين الإسرائيلي، قاعدته السياسية، الذي يحرضه على ضم الضفة الغربية برغم تحذيرات ترامب من أن القيام بذلك سيؤدي إلى رد أميركي قاس.
خيارات محورية إذاً يواجهها نتنياهو هذا العام قد تحدد مستقبله السياسي. في مقدمتها ملف إعفاء الحريديم من التجنيد، إذ يسعى للحفاظ على تحالفه التاريخي مع الأحزاب الدينية عبر سنّ قانون جديد، رغم معارضة شعبية واسعة. فشل تمرير القانون قد يؤدي إلى انهيار الحكومة وانتخابات مبكرة، وهو سيناريو يحاول تأجيله على أمل تحسن وضعه في استطلاعات الرأي.
خارجياً، وافق شكلياً على خطة ترامب لغزة، من دون أن يظهر التزاماً حقيقياً بها. فالرأي العام الإسرائيلي يتوقع عودة الحرب، ونتنياهو يلوّح بنزع سلاح "حماس" بالقوة إذا لزم الأمر. غير أن استمرار الضربات في غزة، وكذلك العمليات في لبنان وسوريا، يثير توتراً مع إدارة ترامب التي تسعى إلى تثبيت الهدنة والاستقرار الإقليمي. وتبقى غزة العقدة الأهم، إذ يرفض نتنياهو أي دور للسلطة الفلسطينية، ما يعرقل الخطة الأميركية ويبعد دعم الدول العربية والأوروبية، خصوصاً السعودية التي تشترط مساراً نحو دولة فلسطينية قبل التطبيع.
داخلياً، تشير الاستطلاعات إلى تقدم معسكر الوسط، لكن نتنياهو قد يلجأ إما إلى تعميق الاستقطاب وفرض الجمود، أو إلى التوجه نحو الوسط عبر تحالفات جديدة. وفي ظل محاكمته المستمرة، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يواصل البقاء والمناورة، أم يختار صفقة كبرى تعيد رسم مستقبله ودور إسرائيل في المنطقة؟
ويقول الباحث في الشؤون الاسرائيلية عماد أبو عواد لـ"النهار": "يجب الانتباه إلى مسألة أساسية، وهي أن نتنياهو نجح في نقل أزماته الشخصية، سواء المرتبطة بمحاكماته أو بفشل السابع من تشرين الأول/أكتوبر أو بملفات أخرى كقضية التجنيد، إلى أزمات دولة. وإذا أردنا الحديث عن الأزمات التي ستواجهه العام المقبل، فهي أزمات كبيرة وتتطلب قرارات حاسمة ومصيرية. لكن لا بد من التذكير بأن العام المقبل هو عام انتخابي، ما يجعل نتنياهو شديد الحذر في الإقدام على أي قرار قد ينعكس سلباً عليه انتخابياً".
ويضيف: "في هذا السياق، يمكن فهم كيفية تعاطيه مع ملف تجنيد الحريديم. فهذه القضية لن تنفجر في المدى القريب، لأن الحريديم أنفسهم معنيون بالاستمرار في الشراكة مع نتنياهو، باعتباره الخيار الأفضل بالنسبة لهم".
ويتابع: "أما على صعيد الملفات الداخلية، فيبدو أن نتنياهو لا يزال يسيطر عليها إلى حدّ كبير. في المقابل، تبقى الملفات الخارجية هي الأكثر خطورة وأهمية. فمع اقتراب الانتخابات، يميل نتنياهو تقليدياً إلى تعقيد الملفات الخارجية بدل حلّها".
ويرى أبو عواد أن نتنياهو قد "ينجح في المماطلة بملف قطاع غزة، بحيث لن تتمكن واشنطن من دفعه نحو خطوات حقيقية باتجاه المرحلة الثانية أو نحو انسحاب كامل من القطاع، قد يُقدم على خطوات شكلية، كفتح معبر رفح".
بالتوازي، يرى أن نتنياهو سيتجه إلى مسارين: الأول، رفع وتيرة الضربات في لبنان. والثاني، السعي إلى تنفيذ ضربة خاطفة وسريعة ضد إيران.
ويقول أبو عواد إن "هذه الملفات، تحديداً، تلقى صدى إيجابياً لدى الجمهور الإسرائيلي، إذ كلما ازداد المشهد الأمني تعقيداً، تعززت الحاجة إليه، في ظل غياب منافسين حقيقيين له في الداخل. كما أن هناك حالة من الإشباع لدى الجمهور الإسرائيلي إزاء ما يعتبره إنجازات له في الملف الإيراني، ما قد يدفعه إلى هذا الخيار، شرط أن تكون الضربات سريعة ومحدودة، لا حرباً طويلة تتطلب تعبئة واسعة للجنود، في وقت تعاني فيه إسرائيل أصلًا من أزمة تجنيد".
بدوره، يقول الكاتب والباحث السياسي الدكتور مراد حرفوش لـ"النهار": "لا يزال نتنياهو يمسك بخيوط اللعبة السياسية، رغم مجمل الضغوط التي يواجهها، سواء تلك المتعلقة بقانون الحريديم، أو خطة الإصلاح القضائي، أو إقرار الموازنة العامة، أو المطالبات بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في الإخفاقات التي رافقت أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر. ويضاف إلى ذلك حالة التشكيك داخل المجتمع الإسرائيلي في جدوى الاكتفاء بتشكيل لجنة تحقيق سياسية بدلًا من لجنة تحقيق رسمية ومستقلة".
ويضيف: "تبرز إشكالية الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف النار، بوصفها إحدى القضايا الحساسة التي تتقاطع فيها الحسابات الأمنية مع الاعتبارات السياسية الداخلية"، ويتابع: "في المقابل، يمكن ملاحظة أن المجتمع الإسرائيلي، وكذلك الأحزاب السياسية المختلفة، باتت تحكم مواقفها وحساباتها وفق منطق الانتخابات المقبلة للكنيست، حيث يعمل كل طرف على توجيه مواقفه بما يخدم فرصه الانتخابية. ولا يُستثنى نتنياهو من ذلك، إذ باتت كل خطوة يقدم عليها، خاصة في القضايا المصيرية، محكومة بحسابات الربح والخسارة الانتخابية، ومدى تماسك القاعدة الانتخابية لليمين الإسرائيلي، إضافة إلى الأحزاب المتحالفة معه، أكثر من كونها استجابة مباشرة لحجم الضغوط أو طبيعتها... ذلك أن التجربة السياسية السابقة أثبتت أن نتنياهو يمتلك قدرة عالية على تجاوز الضغوط وتفريغها من مضمونها، وكأنه اعتاد اجتياز الموجات العاتية والعواصف السياسية المتلاحقة التي واجهته على مدار مسيرته السياسية".
بين المماطلة والحسم، يواجه نتنياهو اختباراً مصيرياً في عام انتخابي حاسم، حيث قد تحدد خياراته الأمنية والسياسية ليس فقط مستقبله الشخصي، بل مسار إسرائيل ومكانتها إقليمياً.
نبض