ممداني عمدة نيويورك... كابوس جديد لإسرائيل
تجتاح هيستيريا زهران ممداني إسرائيل، إذ خيّم الهلع التام على الصحافيين والمحللين في استوديوات القنوات الإخبارية، في اللحظات التي سبقت ورافقت وتلت انتخاب الشاب الثلاثيني عمدةً لمدينة نيويورك. هذا الشاب المسلم الشيعي، الديمقراطي الاشتراكي، أثار عاصفة غير مسبوقة من ردود الفعل، إذ لم يبقَ أحد في إسرائيل إلا وعبّر عن مخاوفه من انتخابه ومواقفه، وكأن نيويورك، المدينة "الكوزموبوليتانية"، تخضع للوصاية أو الحماية الإسرائيلية.
ويتحجّج الإسرائيليون بأن في المدينة أكبر تجمّعٍ يهودي في العالم (1.78 مليون نسمة)، لكن ممداني نال أصوات أكثر من 33 في المئة من اليهود – أي ما يقارب الثلث – في تحدٍّ واضح لسلالة سياسية قديمة ومتجذّرة أنفقت ملايين الدولارات لمحاربته.
أما التحوّل الأبرز في غرف الأخبار الخارجية، فبدأ عندما هاجمت القنوات الإسرائيلية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما إثر إعلانه دعم ممداني، لا سيما "القناة 12" التي شدّدت على اسمه الأوسط "حسين"، في محاولة للتشكيك بخلفيته. ومنذ تلك اللحظة، تحوّل ممداني إلى رمز لـ"الإسلاموفوبيا"، وإلى متلازمةٍ ستلازم إسرائيل خلال الأعوام الأربعة المقبلة.
الصحافي المتطرّف تسفيكا يحزقيلي علّق قائلاً: "تذكّروا هذا اليوم، عمدة نيويورك مسلم، وكما هي العادة في الجهاد الهادئ، لن تُلمس التغييرات فوراً، لكن مع مرور الوقت سيتبدّل الواقع. إنه نصرٌ عظيم لقطر، ولنظرية الإسلام السياسي الطامحة لغزو العالم".
تفكيك المجتمع اليهودي
رأى نيسيم كاتس في صحيفة "إسرائيل اليوم" اليمينية أن "هناك خطراً وجودياً حقيقياً في انتخاب ممداني وصعوده السياسي. فالمشكلة لا تكمن في عدائه الشخصي لإسرائيل، بل في النموذج السياسي المحكم الذي صاغه، وبرنامج العمل الدقيق والمقلق الذي يهدف إلى تحييد وتفكيك القوة المجتمعية اليهودية من الداخل".
ووصفه كاتس بـ"النموذج الممداني"، القائم على مبدأ "بسيط وماكر، يُمكّن ويمنح الشرعية لأشدّ الأصوات اليهودية تطرفاً ومعاداة للصهيونية"، ويستخدمها كدرعٍ بشريّ ضدّ أي اتهامٍ بمعاداة السامية. هذا التكتيك، بحسبه، "يشلّ التيار المركزي، ويكسر الإجماع المجتمعي، ويمهّد الطريق لأجندات متطرفة معادية لإسرائيل كي تصل إلى صميم مراكز القوة".
وأضاف كاتس: "هذه ليست مشكلة نيويورك وحدها، بل تحذيرٌ استراتيجيّ للمجتمعات اليهودية حول العالم، يكشف عن شكل جديد من الحرب السياسية".
ورأى أن ممداني يفهم جيداً صراع الشبان اليهود الممزقين بين قيمهم التقدمية ودعمهم التقليدي لإسرائيل، فيعرض عليهم حلاً سهلاً وجذاباً: "يهودية مصحّحة" تتنصل من إسرائيل وتعتبرها مشروعاً استعمارياً يستحق الخجل. ويمنحهم بذلك طريقة للبقاء يهوداً، مع الانضمام الكامل إلى المعسكر التقدمي دون ثمن سياسيّ أو أخلاقيّ. فتصبح معارضة إسرائيل خياراً مشروعاً، بل تُصوَّر كالفعل الأخلاقي الأعلى.
هنا يكمن الخطر العالمي، وفق الكاتب، لأن نجاح ممداني سيحوّل نموذجه إلى "دليل تشغيل" للسياسيين الراديكاليين في لندن وباريس وتورونتو، وسيتعلمون أن الطريقة الأكثر فاعلية لتحييد اللوبي اليهودي ليست المواجهة المباشرة بل إحداث الشقاق الداخلي.
وحذّر كاتس من أن هذا المسار سيكون "دليلاً على إمكانات مدمّرة"، إذ يُظهر أن أساس التضامن اليهودي العالمي – الرابط بإسرائيل – قابل للتفكيك، في ظلّ استراتيجية تهدد بتحويل المجتمعات اليهودية إلى ساحات قتال داخلية، ما يضعف الشعب اليهودي كله أمام تحديات المستقبل.

الاشتراكيون الديموقراطيون في مرمى الانتقاد
تطرّقت "إسرائيل اليوم" كذلك إلى منظمة "الاشتراكيون الديمقراطيون في أميركا"، مشيرةً إلى أن نواياها تتمحور حول إحداث "ثورةٍ هادئة" عبر تقويض النظام الديموقراطي القائم، معتبرةً أن ممداني رأس حربة أجندتها.
ووفقاً لوثائق تنظيمية داخلية، يرى قادة الحزب في ممداني أداةً لتحقيق هدفهم المتمثل في إلغاء السجون والحدود، وفي نهاية المطاف إنهاء ما يسمّونه "النظام الرأسمالي البربري". وتشهد المنظمة ذروة قوتها، إذ تتوسع بسرعة في أنحاء الولايات المتحدة، ويتوقع أن تبلغ إيراداتها هذا العام نحو 7.5 ملايين دولار، مع أكثر من 20 موظفاً بدوامٍ كامل يدعمون فروعاً في أكثر من 100 مدينة، ما يجعلها لاعباً سياسياً مؤثراً.
وتساءلت الصحيفة العبرية: هل سيتمكّنون من ترشيح مرشح اشتراكيّ للحزب الديموقراطي؟ ففي آب/ أغسطس الماضي، اعتمد مؤتمر الحزب قراراً يدعو إلى "توحيد العمال لكسب معركة الديموقراطية وتحقيق الاشتراكية، لا لتشكيل ائتلافٍ حاكم مع أهون الشرّين"، مؤكداً أن أهدافه تتجاوز البيت الأبيض، وأن "الحزب الاشتراكي في الولايات المتحدة يجب أن يكون جزءاً من الحركة السياسية العالمية للطبقة العاملة". كما يخطط للوصول إلى 100 ألف عضو على مستوى البلاد من خلال حملة تجنيد واسعة، مع نية ترشيح مرشحٍ اشتراكيّ في الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي عام 2028.
ومن أكثر الجوانب إثارةً للجدل في المنظمة موقفها من إسرائيل، إذ تنصّ وثائقها الداخلية على أن المرشحين المدعومين يجب أن يتبنّوا سياسة "مدمّرة" تجاهها، تشمل دعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، والمطالبة بإنشاء "دولة فلسطينية واحدة، علمانية وديموقراطية على كامل أرض فلسطين التاريخية". كما ترفض أي إجراء "يُضفي الشرعية على دولة إسرائيل، أو ينقل إليها الأموال أو الأسلحة، أو يقيّد حق الأفراد في التنظيم من أجل فلسطين حرّة"، وفقاً للصحيفة.
متى سنرى ممداني مثله؟
وحده الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي غرّد خارج السرب في صحيفة "هآرتس"، فرأى في ممداني شخصيةً تستحق أن تُحسد عليها نيويورك، إذ انتُخب في واحدةٍ من أكثر مدن العالم رأسمالية دون تلعثم.
كتب ليفي: “لم نرَ شيئاً كهذا من قبل، ولن نراه مجدداً. مرشحٌ جاء من العدم، ليس جنرالاً متقاعداً، ولا نجماً تلفزيونياً، ولا وريثاً من النخبة أو من أصحاب الامتيازات، ولا رجل أعمالٍ عديم القيمة. إنه شابٌ مهاجر، ثابت الموقف، جريء في أفكاره، لا يخشى قول ما يفكر فيه، ولا يتردد في التفكير بما يقول. لا يسأل مستطلعي الرأي ولا يطلب النصيحة للاعتدال، بل يندفع بصدقه – ويفوز، يهزم المؤسسة والمرشح المنتمي إلى السلالة الحاكمة".
وأضاف: "إذا استمرت السياسة الإسرائيلية في التخبّط في مياهٍ سحيقة – ليس فقط ببقاء بنيامين نتنياهو، بل ببقاء جميع خصومه الذين هُزموا مراراً ويرفضون مغادرة المسرح السياسي – فلن نحظى أبداً بممداني".
وتابع ليفي: "خلال بضعة أشهر، أثار ممداني حماس نيويورك وجذب شبابها الذين لم يكونوا يهتمون بالسياسة، فانتُخب في مدينة تضمّ أكبر جالية يهودية في العالم، رغم محاولاتهم المحمومة لتشويه سمعته بمعاداة السامية، لكنه تجاوز العقبات جميعها. لقد أثبتت أميركا مجدداً أنها أرض الإمكانات اللامحدودة".
وختم الصحافي الإسرائيلي: "ستبذل المؤسسة القديمة قصارى جهدها لتدميره، كما فعلت في المملكة المتحدة مع جيريمي كوربن، زعيم حزب العمّال الذي كان يمثّل أملاً كبيراً بالتغيير، قبل أن يُبدَّد. وربما تفشل وعود ممداني، رغم موهبته في تحقيق العدالة والمساواة في مدينته وخارجها، وربما لا يتمكّن من القيادة والتنفيذ كما يعد، لكن انتخابه بحد ذاته يمثّل تحولاً هائلاً. لقد ألهم الأمل بشيءٍ مختلف، وجلب معه نفحة هواءٍ نقيّة غابت عن إسرائيل منذ زمن طويل".
نبض