في شرق أوكرانيا مفارقة.

تلوح أمام الجيش الروسي مدن "استراتيجية" فيتوجه لاحتلالها. بمجرد تحقيقه الهدف تفقد تلك المدن طابعها "الاستراتيجي". فمعظم ما يجعل من السيطرة على المدينة أمراً محورياً، كالمخازن والتحصينات ومراكز الإمداد، يفقد قيمته بسبب القصف المكثف لفترة طويلة. حتى أهمية "عقدة" المواصلات تتغير بفعل كثافة حرب المسيّرات. أحياناً، تمتد "منطقة القتل" إلى 20 كيلومتراً على جانبي خط المواجهة.

هذا ما يحصل مثلاً مع بوكروفسك في منطقة دونيتسك. بدأت المعارك على المحور منذ تموز/يوليو 2024 واستمرت أكثر من 15 شهراً. الآن، هي على مشارف السقوط. قد يحدث الأمر في أيام، أو في أسابيع. بحلول ذلك الوقت، ستكون بوكروفسك قد فقدت معظم مزاياها السابقة باستثناء وقوعها على مرتفع، وهي ميزة غير ثانوية على أي حال.

لكن بوكروفسك تذكّر المراقبين بمدينتين "استراتيجيتين" سابقتين: باخموت وأفديفكا. قيل الكثير عن أن سقوطهما سيغير مسار الحرب لمصلحة الروس قبل أن يتبين بطلان الادعاء. إذا كان التاريخ الحديث مقدمة دقيقة فمن غير المرجح أن يؤدي سقوط بوكروفسك إلى انهيار كبير في الدفاعات الأوكرانية.

قصف مدفعي أوكراني في دونيتسك (أ ب)

قسمت باخموت القوة الروسية بين "فاغنر" والجيش. وأطلقت أيضاً تمرد قائد فاغنر آنذاك يفغيني بريغوجين. ضرب ذلك صورة روسيا. من هذه الزاوية، كان التمسك الأوكراني بالمدينة حتى الرمق الأخير مفيداً نسبياً. لن يقدم التمسك ببوكروفسك فائدة سياسية مماثلة للأوكرانيين. لكنه ساهم في استنزاف الروس. إنما ينبغي على نسبة الاستنزاف أن تفوق على الأقل ثلاثة أمثال عدد الخسائر الأوكرانية كي تكسب كييف بعض النقاط. يستحيل التحقق من هذه النسبة حالياً. في الوقت نفسه، قدّم صمود بوكروفسك لأوكرانيا فرصة بناء دفاعاتها في العمق لمنع تقدم سريع نحو أكبر المدن في دونيتسك.

جعبة أوكرانيا

تبدو أوكرانيا قادرة على شن هجمات مضادة موضعية بالقرب من بوكروفسك. حين حققت روسيا اختراقاً مفاجئاً على محور دوبروبيليا، شمال بوكروفسك، سادت مخاوف من أن يؤدي الاختراق إلى تقدم أوسع في المنطقة نحو مدينة كراماتورسك. شنت أوكرانيا هجوماً مضاداً في المحور أواخر الشهر الماضي واستعادت ثلاث قرى كبيرة من بينها كوشيريف يار. كشف ذلك خللاً في القوات الروسية: هي عاجزة عن السيطرة على الأراضي التي تحتلها، أو غير مستعدة لمناورات القوات الأوكرانية.

تبين ذلك، مجدداً، من خلال عملية أخرى أشرف عليها رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الأوكرانية كيريلو بودانوف. على تخوم المدينة الغربية تقريباً، أنزلت مروحية واحدة على الأقل مجموعة من القوات الأوكرانية الخاصة لتخفيف الضغط عن المدافعين. قال الروس إنهم قتلوا جميع العناصر. لكن الفيديو يظهر المروحية تغط وتقلع بسلام. لماذا لم يستهدف الروس المروحية بشكل مباشر طالما أنهم علموا بالعملية مسبقاً هو سؤال مشروع.

تدريبات أوكرانية بالقرب من بوكروفسك (أ ب)

من جهتها، أعلنت الاستخبارات العسكرية الأوكرانية الثلاثاء أن عمليتها متواصلة وقد انضم إليها المزيد من العناصر. لكن "معهد دراسة الحرب" أشار الاثنين إلى أن الروس يواصلون العمل داخل المدينة "بأريحية متزايدة".

الفائدة شبه الوحيدة للروس

ما قد يستفيد الروس منه عند سقوط بوكروفسك هو توجيه رسالة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب مفادها أنهم قادرون على تحقيق التقدم، مهما كان شكل وحجم الدعم الغربي لأوكرانيا. بالنسبة إلى رئيس يتخذ قرارات كثيرة بناء على آخر ما يشاهده أو يسمعه، ربما يقنعه سقوط بوكروفسك بالعدول نهائياً عن فكرة مدّ أوكرانيا بصواريخ "توماهوك".

ليس الأمر، لو تحقق، نتيجة سيئة للكرملين.