"النظام الدولي الحالي يصل الى نهايته"... بيار هاسكي لـ"النهار": 3 مناطق رئيسية تحدد مستقبل العالم
تحدث الصحافي والمحلل الفرنسي بيار هاسكي في مقابلة مع "النهار"، عن التحولات العميقة التي عرفها عالم الإعلام والسياسة الدوليين، من تجربته في العمل الصحافي الممتدة عبر عقود، متأملاً في التحول الذي شهدته مهنة الصحافة، وفي التغيرات الجيوسياسية التي تعيد رسم ملامح النظام العالمي اليوم، بين الأزمات والحروب.
*عشت حقبات عدة من الصحافة، ما الذي ترى أنه تغير أكثر في طريقة سرد الأحداث العالمية؟
- الثورة الكبرى التي غيرت الأمور وقلبتها رأساً على عقب هي بالطبع ظهور الإنترنت، وظهور الشبكات الاجتماعية وسيلة للتواصل المباشر مع الجمهور. في السابق، إذا أراد شخص ما إيصال رسالة، كان عليه أن يمر عبر صحافي ليصل إلى الجمهور. اليوم، يمكنك القيام بذلك مباشرة. وقد أدى ذلك إلى تغيير كبير في الأمور لأنه أجبر الصحافيين على تغيير مهنتهم وتقديم قيمة مضافة.
وأعتقد أن هذا التغيير جوهري في مجال الإعلام له عواقب وخيمة أيضاً، وهو أنه من خلال هذه الإمكانية للتعبير المباشر، ظهرت أيضاً المعلومات المضللة والتلاعب والكراهية. لذلك، هذا يضفي مزيداً من المسؤولية على الصحافي. ونحن اليوم في مرحلة من الارتباك بحيث لم يعد الناس يثقون بالصحافيين وما عادوا يثقون بكل ما يحدث على الإنترنت.
ولذلك، يجب استعادة الثقة. وفي رأيي، يجب أن تمر الثقة عبر الصحافيين، لأن لدينا قواعد مهنية وأخلاقية تجعلنا ننتج معلومات من المفترض أن تكون جديرة بالثقة. وإذا لم نفعل ذلك، فسنجد أنفسنا في عالم من الفوضى المعلوماتية حيث لا أحد يصدق أي شيء.
*عند النظر إلى مسيرتك المهنية، نلاحظ شغفاً مستمراً بتحليل الشؤون الدولية. ما الذي غذّى هذه النظرة إلى العالم منذ البداية؟
- إنها قصة شخصية. عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري، تزوجت أمي مرة أخرى رجلاً سويدياً كان يعمل في الأمم المتحدة وذهبت للعيش معه في تنزانيا، شرق إفريقيا. ذهبت إلى زنجبار لزيارتهما. زنجبار هي جزيرة تابعة لتنزانيا. قضيت خمسة أيام هناك وكان التجار يتعرفون عليّ ويدعونني لتناول القهوة. وهناك ثلاث فئات من السكان في البلاد.
هناك الأفارقة والهنود وأحفاد العمانيين. وأنا كنت مفتوناً بذلك لأن كل واحد كان يروي لي قصة مختلفة عن تاريخهم. كنت مفتوناً وصغيراً وقلت لنفسي هذا ما أريد أن أفعله في حياتي. الذهاب إلى مواقف معقدة للغاية وإخبار قرائي بها وشرحها لهم. هكذا ولدت هذه الرغبة. لم أكن أعرف أنني أقوم بالتغطية الصحافية عندما كنت أستمع إلى هذه الشهادات. وهذا ما أعطاني الفكرة. صراحة، لقد قمت بذلك طوال حياتي. ولا أملّ من ذلك لأنه يظل مثيراً للاهتمام، حتى في عصر أصبح فيه الناس أكثر اطلاعاً على المعلومات، ويسافرون أكثر من ذي قبل. أعتقد أن عمل الصحافة، أي الذهاب للتحدث إلى الناس ببساطة في كل مكان في العالم وفي أكثر المواقف تعقيداً، هو الطريقة الوحيدة لفهم ما يعيشه الناس.
*يبدو العالم اليوم مجزأً بين كتل متنافسة، هل تعتقد أننا نشهد نهاية النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب الباردة؟
- نعم، في الواقع نحن في نهاية نظام دولي مزدوج، نظام عام 1945 الذي تم إنشاؤه في نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي تم تعديله بعد نهاية الحرب الباردة، وسقوط جدار برلين، ونهاية الاتحاد السوفياتي.
وقد تم الطعن في هذا النظام منذ سنوات عدة. وهناك طعون عدة متزامنة. الأول هو بلدان الجنوب، التي لم تكن موجودة في عام 1945. عندما تم إنشاء الأمم المتحدة، كان هناك 52 دولة. اليوم هناك 200 دولة. وجميع البلدان التي نشأت بعد نهاية الإمبراطوريات الاستعمارية تعتقد أن العالم لا يزال في أيدي أولئك الذين أنشأوه عام 1945. فمجلس الأمن لا يزال يضم الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة وروسيا والصين. أين هي الدول الكبرى في الجنوب؟ وهذا أحد أكبر الخلافات، ولا يمكن إصلاح هذا الوضع لأن الإصلاح يتطلب إجماعاً. وبما أن الجميع على خلاف، فلا يوجد إجماع.
الاعتراض الثاني جاء من روسيا والصين، اللتين تعتبران أن النظام الدولي يصب في مصلحة الغرب بشكل عام والأميركيين بشكل خاص.
وفجأة، ظهر اعتراض ثالث، وهو اعتراض (الرئيس الأميركي) دونالد ترامب. دونالد ترامب نفسه، في حين أننا نعتقد أنه المستفيد من هذا النظام، يقول إنه يجب إنشاء نظام دولي جديد.
والوحيدة التي لا تزال متمسكة بهذا النظام الدولي القديم، القائم على قواعد القانون، حتى لو لم يتم احترامها، هي أوروبا. في الواقع، أوروبا هي اليوم ربما أكثر مناطق العالم تأثراً بوصول دونالد ترامب. فجأة، فقدت يقينها. التفتت ووجدت أنه لم يعد هناك أحد وراءها. وبما أن الدفاع عن أوروبا وأمنها كانا يعتمدان لمدة طويلة جداً على الحماية الأميركية، فإنه عندما يصبح حاميك هو أيضاً عدوك، لأن أميركا تتصرف كعدو حيال أوروبا، فإنك تفقد توازنك.
لذلك أعتقد أن هذا النظام الدولي يصل إلى نهايته. السؤال هو كيف نحدد نظاماً جديداً. وفي التاريخ، للأسف، فعلنا ذلك مراراً، فعلنا ذلك بعد الحرب العالمية الأولى، وتم ذلك بعد الحرب العالمية الثانية. واليوم، نحن في عالم فيه منطقتان رئيسيتان تشهدان حرباً، أوكرانيا والشرق الأوسط. لكن هل يجب أن نمر بحروب لإعادة تعريف النظام الدولي في كل مرة؟ هذا هو كل ما يحوط اللحظة الحالية من عدم اليقين. من الواضح أن القوى العظمى، الولايات المتحدة والصين وروسيا، تخوض اختباراً لقوة بعضها البعض من أجل تحديد من هو الأقوى، ومن هو قادر على إخضاع الآخر.
نأمل أن يقبلوا في وقت ما أنهم لن ينجحوا في ذلك، وأن عليهم الجلوس إلى طاولة المفاوضات وتحديد نظام عالمي جديد بقواعد أكثر عدلاً وأكثر قدرة على منع الحروب وحل المشاكل.
*تتابع عن كثب التوترات بين القوى العظمى. برأيك، ما هي المنطقة في العالم التي يتحدد فيها التوازن العالمي اليوم؟
- أعتقد أن هناك ثلاث مناطق رئيسية اليوم تتحدد فيها مستقبل العالم بدرجات متفاوتة. هناك أوكرانيا، لأن ما يجري هو حرب شنتها دولة عضو دائم في مجلس الأمن، قوة نووية. وإذا انتصر (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين في أوكرانيا، فسوف يتغير التوازن الاستراتيجي في أوروبا وستكون لذلك عواقب مهمة.
هناك الشرق الأوسط بالطبع لأن هذه المنطقة، شئنا أم أبينا، منطقة استراتيجية.
على رغم أننا بدأنا منذ مدة طويلة نقول "الأميركيون يريدون الرحيل....". من الواضح أن هذا ليس صحيحاً. فالشرق الأوسط لا يزال يستحوذ على كل هذه الطاقة الديبلوماسية والعسكرية بشكل كبير، كما أن ظهور دول الخليج قوة مالية واقتصادية وسياسية له تأثيره.
والمنطقة الثالثة هي آسيا لأن مركز ثقل الاقتصاد العالمي والإنتاج والابتكار هو هناك. ولا يقتصر الأمر على الصين فحسب، بل يشمل أيضاً جنوب شرق آسيا والهند وجميع البلدان التي تشكل اليوم محركات الاقتصاد العالمي. وهنا تكمن المنافسة بين الصين والولايات المتحدة. فالصينيون يريدون طرد الولايات المتحدة من آسيا، على الصعيد الاستراتيجي على الأقل، وعلى الصعيد العسكري.
وهذا حقاً أحد النقاط المركزية لتوازن العالم. لذلك، على هذه الجبهات الثلاث، من المهم إجراء مقارنة مع الحقبتين الأخريين اللتين تحدثت عنهما سابقاً، حقبة الحرب العالمية الأولى وحقبة الحرب العالمية الثانية. لأننا نرى بوضوح أن هذه الصراعات الثلاثة ليست حرباً عالمية.
خلال الحربين العالميتين، كان هناك معسكران محددان بوضوح. كانت الدول إما في هذا المعسكر وإما في ذاك، وكانتا تتصارعان في أماكن عدة. الوضع مختلف الآن، لأن كل حرب لها خصائصها الخاصة. هناك روابط، نرى ذلك بوضوح عندما تزود إيران روسيا طائرات من دون طيار، وعندما تزود كوريا الشمالية روسيا رجالاً. لكنها تظل مع ذلك بؤر حرب مستقلة. الخطر هو أن يتفاقم الأمر ويستمر في التحول إلى صراع واحد. عندها، ستكون الكارثة حقيقية.
*ما الذي يقلقك أكثر في الجيوسياسية الحالية وما الذي لا يزال يمنحك الأمل؟
- لقد عشت مرحلة سقوط جدار برلين. كنت مراسلاً لصحيفة "ليبراسيون" وتابعت الأحداث عن كثب. كنت في ألمانيا وأوروبا الشرقية وروسيا خلال العامين اللذين استغرقتهما الأحداث. عشنا في ذلك الوقت مرحلة من عدم اليقين التام.
لقد نسينا ذلك اليوم لأننا نتذكر الجوانب الإيجابية فقط، لكن كانت هناك مرحلة من عدم اليقين استمرت أشهراً عدة. عدم يقين، على سبيل المثال، بشأن مصير الرؤوس النووية السوفياتية ومسألة الحدود وخطر الانهيار الاقتصادي.
ولكن تم حل كل هذه الشكوك لأن قادة الدول حينها كانوا مسؤولين ومتسقين إلى حد ما. غورباتشيف في موسكو، كول في برلين، ميتران في فرنسا، بوش الأب في واشنطن، تاتشر في لندن. كان في البلدان الرئيسية التي تأثرت بهذه الأزمة أشخاص لديهم الرغبة في التوصل إلى اتفاق وتفاهم.
وفي غضون بضعة أشهر، حدثت انفراجة وتم حل كل ذلك بطريقة سلمية وديموقراطية. وصراحة، خرجنا من تلك المرحلة بشيء إيجابي، وهو قارة أوروبية موحدة ومحررة.
واليوم نواجه حالة عدم اليقين نفسها. من يستطيع أن يقول، في عالم اليوم، أين سيكون العالم بعد ثلاثة أشهر؟ نستيقظ في الصباح، وتتساءل عن الحرب الجديدة التي بدأت؟ وماذا قال ترامب الليلة الماضية؟ وفي ظل هذا الغموض الذي يذكرنا بعام 1989، لدينا بؤرتان للحرب، أوكرانيا والشرق الأوسط، وقادة لا يحفزهم التوصل إلى حل وسط أو اتفاق، بل على العكس، هم في خصومة عميقة وهذا ما يقلقني. إنه غياب المسؤولية على أعلى مستويات المجتمع الدولي. وهذا أمر لن يتوقف قريباً.
وهنا نعود إلى بداية هذه المحادثة. فالتداول السريع للمعلومات اليوم يشجع على الديماغوجية والشعبوية والاستبداد. ونرى ذلك بوضوح في بلداننا الأوروبية، التي يهددها اليوم جميعاً الانزلاق إلى هذا الشعبوية الاستبدادية. وهذا ليس بشراً طيباً للسنوات المقبلة.
بيار هاسكي صحافي فرنسي، يروي قصة عالم متغير في عموده اليومي "جيوبوليتيك" (الجيوسياسة) على إذاعة "فرانس إنتر". عمل في وكالة "فرانس برس" وصحيفة "ليبراسيون"، ومراسل سابق في بكين والقدس وجوهانسبرغ، هو أيضا كاتب عمود في صحيفة "نوفيل أوبسيرفاسيون". أسس موقع "Rue89"، ورئيس منظمة "مراسلون بلا حدود" منذ عام 2017، ومؤلف العديد من الكتب والوثائقيات.
نبض