شهد افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة للبرلمان التركي (الجمعية الوطنية الكبرى) لحظة محورية في المسار السياسي للبلاد، كشفت عن تعمّق الانقسامات بين السلطة وقوى المعارضة، وسط تأرجح واضح في الكتلة الأخيرة بين محاولات التكيّف والضغوط الشعبية.

اعتذار علني
في الجلسة الافتتاحية التي حضرها، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن تركيا هي "وطن الأكراد"، متعهّداً بحمايتهم من "الاستغلال الإرهابي"، في إشارة إلى إعادة تموضعات محتملة في السياسة السورية. واعتُبر هذا الخطاب النادر الذي يعترف بالهوية الكردية محاولة لتهيئة الرأي العام لمحادثات جديدة مع حزب الديموقراطية والمساواة بين الشعوب "ديم"، الذي يُعد الامتداد السياسي للحركة الكردية في البلاد.
تجنّب أردوغان مصافحة الرئيسة المشاركة لحزب "ديم" تولاي حاتم أوغوللاري، ما أثار انتقادات واسعة، ليعود ويقدّم لاحقاً اعتذاراً علنياً خلال حفل الاستقبال قائلاً: "سامحونا، كان ذلك سهواً"،  وتبادل معها الحوار في مشهد لاقى ترحيباً حذراً.

كما أقدم نواب حزب "ديم" على مصافحة دولت بهتشلي، في تكرار لمشهد المصالحة الذي برز عام 2024 وأفضى إلى بدء محادثات نزع سلاح حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي انطلق بدعوة من بهتشلي، فيما لعب "ديم" دور الجسر السياسي بين أنقرة والأكراد المتمسّكين بنهج الحركة الكردية الثورية في البلاد.
في المقابل، قاطع حزبا الشعب الجمهوري (CHP) والعمال التركي (TİP) الجلسة الافتتاحية، تاركين مقاعدهما فارغة. واعتبر زعيم الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل هذه المقاطعة احتجاجاً على "الممارسات غير الدستورية" للسلطة، وعلى رأسها ملاحقة رؤساء البلديات التابعين للحزب.
ووضع نواب الحزب باقات من الزهور على مقاعدهم الشاغرة، فيما فضّل نواب حزب العمال التركي زيارة زميلهم المعتقل جان أتالاي، الذي ألغيت حصانته البرلمانية خلافاً لقرار المحكمة الدستورية.
ربط أوزيل المقاطعة بما وصفه بـ"خطاب أردوغان الانقلابي المستوحى من ترامب"، وأعلن مقاطعة جميع المناسبات الرئاسية حتى "استعادة النظام الدستوري"، فيما ركّز حزب العمال التركي على العمل الميداني الرمزي، إذ قال زعيمه إركان باش: "هذا النظام لم يعد يحترم القانون – علينا بناء مقاومة خارج البرلمان".
الحدث المفاجئ كان جلوس كلٍّ من رئيس حزب المستقبل أحمد داوود أوغلو، ورئيس حزب "ديفا" علي باباجان، إلى جانب أردوغان للمرة الأولى منذ انشقاقهما عن حزب العدالة والتنمية عام 2019، في خطوة اعتُبرت بادرة تطبيع سياسي، وإن كان الشك لا يزال قائماً حيال استعداد أردوغان لتقاسم السلطة.
وكان كلا النائبين قد وصلا إلى البرلمان عبر إدراجهما في قوائم حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ضمن ما عُرف بتحالف "الطاولة السداسية".

داوود أوغلو وباباجان ووفد ديم يجلسون إلى جانب أردوغان. (وكالات)

الرئاسة مقابل الحقوق الدستورية للأكراد
بعد نحو عقد من المعارضة الشرسة التي انتهجها حزب "ديم" ضد أردوغان، ووقوفه إلى جانب حزب الشعب الجمهوري في الاستحقاقات الدستورية، تأتي الصور التي خرجت من الجلسة الافتتاحية إعلاناً عن تبدّل في الموازين السياسية وخريطة التحالفات داخل تركيا.
في الشكل، فإن التقاء قادة الحزب مع نظرائهم في تحالف الشعب الحاكم، وفي مقدّمتهم أردوغان، يشير إلى ذوبان الجليد بين الطرفين، فيما يبدو مضمون هذا التقارب أكثر تعقيداً، وهو القائم على المبدأ البراغماتي المفضّل لدى أردوغان والمتمثّل بعلاقة الربح المتبادل (Win-Win). 
يحتاج الرئيس التركي إلى أصوات نواب "ديم" لتمرير التعديلات الدستورية التي تتيح له الترشّح للانتخابات المقبلة لولاية رابعة، وهذه التعديلات تمثّل نقطة الالتقاء مع "ديم" الذي يطالب بحقوق دستورية للأكراد وأخرى إجرائية تخصّ حزب العمال الكردستاني.
يُعتبر إعداد الأطر القانونية المطلوبة للعملية الجديدة للتسوية من أبرز البنود على جدول أعمال البرلمان التركي في دورته التشريعية الجديدة. فبعد إعلان حزب العمال الكردستاني حلّ نفسه وإجراء مراسم رمزية لتسليم السلاح، لم تُكمل بعد لجنة "التضامن الوطني، الأخوّة والديموقراطية" أعمالها، ولم يتّضح موعد بدء مناقشة مشاريع القوانين التي تهدف إلى إضفاء الطابع الاجتماعي على العملية ووضع أساسها القانوني.
تنتظر الحكومة التركية خطوات حزب العمال الكردستاني على الأرض في ما يتعلّق بتسليم السلاح قبل الانتقال إلى المرحلة التشريعية، فيما تشكّل تطورات الملف السوري ومسار اندماج "قسد" المحتمل مع النظام في دمشق العامل الأبرز وراء هذا التريّث. ومن المخطّط أن تشمل المرحلة الأولى قانون "العودة إلى الوطن" الخاص بدمج أعضاء التنظيم، بالإضافة إلى تعديلات على قانون تنفيذ الأحكام (العفو والإنفاذ) كجزء من إجراءات الدمج الاجتماعي والقانوني.

"ديم" بين براغماتية المكاسب ومزايدات المعارضة
رغم تجنّب حزب الشعب الجمهوري انتقاد "ديم" رسمياً، فإن العديد من النواب والمحلّلين المقرّبين منه اتّهموا الحزب الموالي للأكراد بـ"اللهث خلف مكاسب ضيّقة على حساب المصلحة الوطنية".
ويرى الحزب، الذي تصدّر الانتخابات المحلية الأخيرة، أن القرارات القضائية التي استهدفت رؤساء بلدياته وقادته المنتخبين تشكّل تهديداً مباشراً للنظام الانتخابي في البلاد.
في المقابل، يذكّر مؤيدو "ديم" خصومهم بموقف الشعب الجمهوري السلبي من قرارات استهداف رؤساء بلديات الحزب سابقاً، وصولاً إلى تجريد الرئيس الأسبق صلاح الدين دميرتاش من الحصانة النيابية تمهيداً لسجنه، حين صوّت الشعب الجمهوري بالموافقة على القرار.
يقول مصدر قيادي في "ديم" لـ"النهار": "مشكلة المدافعين عن الديموقراطية أنهم يرون في الخطوات الديكتاتورية تهديداً فقط حين تستهدفهم"، مضيفاً أن الحزب "متمسّك بالنهج الديموقراطي في السياسة والاقتصاد والمجتمع، لكن هذا الالتزام يجب أن يكون من الجميع ولصالح الجميع".
جسّد افتتاح البرلمان التركي لعام 2025 المفارقة العميقة في المشهد السياسي التركي: مظهر من التعدديّة الشكلية يخفي تركيزاً متزايداً للسلطة في يد الرئيس. وتبدو رسائل أردوغان التصالحية تجاه الأكراد وخصومه السابقين مناورة لعزل الشعب الجمهوري سياسياً عن تحالفاته السابقة، ليبقى مستقبل المعارضة رهناً بمفاضلتها بين المكاسب والمغريات المقدّمة من السلطة، ورغبتها في العمل المشترك لإنهاء أكثر من ربع قرن من هيمنة حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان على الحكم في البلاد.