شمال إفريقيا 22-09-2025 | 06:30

القاهرة وأنقرة: من الخصومة الإيديولوجية إلى البراغماتية الجيوسياسية

 تهدف مناورات "بحر الصداقة" إلى تعزيز التنسيق العملياتي وإظهار التزام مشترك للاستقرار الإقليمي، برمزية توقيتها المتزامن مع الذكرى الثانية لتبادل السفراء بين البلدين عام 2023.
القاهرة وأنقرة: من الخصومة الإيديولوجية إلى البراغماتية الجيوسياسية
تجري تركيا ومصر مناورات "بحر الصداقة" بعد انقطاع دام 13 عاماً. (وكالات)
Smaller Bigger

تجري القوات التركية والمصرية مناورات جوية وبحرية مشتركة في شرق البحر الأبيض المتوسط بين 22 و26 أيلول/سبتمبر الجاري، وذلك لأول مرة منذ 13 عاماً، استئنافاً لخطوات التعاون العسكري المتنامي بين البلدين، ما يمثّل مؤشراً مهماً على إصلاح العلاقات بعد سنوات من الخصومة.

 

وتشارك تركيا في المناورات التي تحمل اسم "بحر الصداقة"، بقطع بحرية وجوية تشمل الفرقاطتين "أوروج ريس" و"غيديظ"، وزوارق الدورية السريعة "إمبات" و"بورا"، والغواصة "غور"، إضافة إلى مقاتلتين من طراز "أف-16"، وفق ما أعلنه المتحدث باسم وزارة الدفاع التركية زكي أكتورك، فيما ستشارك وحدات من البحرية المصرية أيضاً في التدريبات.

 

ومن المقرر أن يحضر قائدا البحريتين التركية والمصرية فعاليات "يوم الزوار المميزين" في 25 أيلول الجاري.


مناورة عسكرية ورسالة سياسية في شرق المتوسط

بشكلها المباشر، تهدف مناورات "بحر الصداقة" إلى تعزيز التنسيق العملياتي وإظهار التزام مشترك للاستقرار الإقليمي، برمزية توقيتها المتزامن مع الذكرى الثانية لتبادل السفراء بين البلدين عام 2023.

 

وفي الصورة الأوسع، تشير المناورات إلى سعي الجانب المصري لتنويع شراكاته بعيداً من حلفائه التقليديين، بينما تحاول تركيا تقليص عزلتها في العالم العربي، في محاولة لإعادة صوغ تحالفات الشرق الأوسط بعد تراجع الدور الأميركي، فيما تتابع اليونان وقبرص هذه المناورات بحذر، خشية تغيّر موازين القوى في شرق المتوسط.

 

شكّل قرار مصر الانضمام إلى برنامج المقاتلة الشبحية التركية "كآن" تحوّلاً في تحالفات الشرق الأوسط، وفُسّر كونه رغبة مصرية–تركية مشتركة في موازنة الهيمنة الأميركية–الإسرائيلية على أطر الأمن الإقليمي.

 

ويمكن اعتبار استبعاد تركيا من برنامج "أف-35" بسبب شرائها منظومة "أس-400" الروسية، وتقييد حصول مصر على أسلحة أميركية متطورة، والقلق من اتساع نفوذ إسرائيل في غزة وسوريا ولبنان، إلى جانب التهديدات المتزايدة من نتنياهو، وتقليص الاعتماد على المورّدين الأجانب مثل الولايات المتحدة وروسيا عبر تطوير قدرات دفاعية محلية، أبرز الدوافع وراء التعاون المتنامي بين البلدين.

 

واجهت القاهرة تهديدات بفرض عقوبات بسبب مشترياتها من طائرات "سو-30" الروسية وتأخيرات شراء طائرات "أف-15". وتشغّل القوات الجوية المصرية أكثر من 200 طائرة "أف-16" وطائرات ميراج/ميغ قديمة، فيما يُؤدي وصول إسرائيل الحصري إلى طائرة "أف-35" في المنطقة إلى اختلال في التوازن العسكري الجوي.

 

وتستكشف مصر أنظمة دفاع تركية إضافية، بينها الطائرات المُسيّرة، وصواريخ TRLG-230، وأسلحة L-UMTAS المضادة للدبابات، لبناء منظومة دفاعية متعددة الطبقات.

 

قبل شهر، وقّعت شركة "هافلسان" التركية والهيئة العربية للتصنيع في مصر اتفاقاً لإنتاج مشترك للمسيّرات من نوع "بهاء" و"بولوت" و"بوزباي"، ما يتيح لأنقرة الدخول بقوة في السوق الأفريقية، ويؤمّن لمصر تعزيز قدرة الإنتاج العسكري المحلي.

 

من مناورات بحر الصداقة بين مصر وتركيا. (وكالات)
من مناورات بحر الصداقة بين مصر وتركيا. (وكالات)

 

عودة التعاون البراغماتي بين القاهرة وأنقرة

بعد عقد من هيمنة العامل الإيديولوجي على العلاقات التركية–المصرية، تعود القاهرة وأنقرة اليوم إلى طاولة التعاون بخطوات محسوبة، عنوانها الأساسي البراغماتية، مدفوعة بالضغوط الاقتصادية، وإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية، فضلاً عن التحديات الداخلية، ما دفع كلا الطرفين إلى البحث عن معادلة جديدة على أرضية ديبلوماسية المصالح المشتركة.

 

في آب/أغسطس، ناقش وزيرا الخارجية المصري والتركي الأزمات الإقليمية، واتفقا على تعزيز التبادل التجاري الثنائي إلى 15 مليار دولار، وذلك بالتزامن مع الذكرى المئوية لانطلاق العلاقات الديبلوماسية بين البلدين.

 

ودان الوزيران احتلال إسرائيل لغزة، ودعوا إلى مواجهة السياسات التي تقوّض الأمن الإقليمي، مع التركيز على الجهود الإنسانية واتفاقات وقف النار. كما شملت المناقشات ليبيا، مع التركيز على الانتخابات، وتفكيك الميليشيات، وانسحاب القوات الأجنبية، إلى جانب وقف النار في السودان ووصول المساعدات.

 

وفي حين جددت مصر دعمها استقرار سوريا وسيادتها، ودانت الانتهاكات الإسرائيلية، وتناولت مسألة وحدة أراضي الصومال، دعمت تركيا مرشح مصر خالد العناني لمنصب مدير عام اليونسكو، مشددةً على التعاون الديبلوماسي.
والأربعاء الماضي، أجرى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان اتصالات هاتفية بنظيريه السعودي والمصري لمناقشة الوضع في قطاع غزة.

 

ولم تتوقف التجارة بين مصر وتركيا رغم سنوات القطيعة، وإنما نمت بنسبة 14% بين عامي 2021 و2022 لتصل إلى 7.7 مليارات دولار، وهو ما جعل تركيا خامس أكبر شريك تجاري لمصر. تعكس هذه الأرقام حقيقة أن الاقتصاد سبق السياسة، إذ حافظت الشركات على خطوط التبادل في مجالات المنسوجات، وقطع السيارات، والآلات الزراعية.

 

تمثّل الاستثمارات التركية في مصر، المقدرة بنحو 3 مليارات دولار، ركيزة الشراكة، في وقت تبحث فيه القاهرة عن مزيد من الاستثمارات لمواجهة أزمة الديون الخارجية. أمّا أنقرة، التي تعاني من تضخم غير مسبوق بلغ 85.5% عام 2022، وانهيار الليرة، فوجدت في السوق المصرية فرصة لتوسيع صادراتها وتخفيف أزمتها المالية.

 

وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 6.8 مليارات دولار عام 2024، مع استثمارات تركية في البنية التحتية والطاقة في مصر. ويجري بحث مشروع كابل بحري يربط محطات الطاقة الشمسية التركية بالشبكة الكهربائية المصرية.

 

فرص التقارب المصري–التركي ومخاطره

لكن هذه العلاقة لا تخلو من المعوقات، وعلى رأسها إرث جماعة "الإخوان المسلمين"، إذ لا تزال دوائر مصرية تنظر بعين الريبة إلى علاقات تركيا السابقة مع الجماعة، إلى جانب تضارب المصالح في الأزمة الليبية، الذي قد يضع التعاون على المحك.
وتمثّل المسوحات المصرية في المناطق البحرية على طول حدودها الغربية رفضاً عملياً لاتفاق الحدود البحرية الموقع بين تركيا وليبيا، وكذلك للاتفاقات المبرمة بين أنقرة وطرابلس بشأن التنقيب عن الهيدروكربون جنوب جزيرة كريت.

 

وبدأت المسوحات، التي أجرتها سفينة الأبحاث الزلزالية "رامفورم هايبريون"، في 21 آب في المياه التي تطالب بها طرابلس بموجب مذكرة التفاهم التركية–الليبية لعام 2019. وكانت القاهرة قد رفضت هذا الادعاء قبل ثلاث سنوات بموجب المرسوم الرئاسي الرقم 595 (11 كانون الأول/ديسمبر 2022)، الذي حدد الحدود البحرية الغربية لمصر مع ليبيا. وتعمل مصر الآن بموجب هذا المرسوم على إجراء مسوحات في جميع أنحاء المنطقة المتنازع عليها.

 

تشمل منطقة البحث قطاعاً بحرياً منحته طرابلس في حزيران/يونيو الماضي لشركة النفط التركية الحكومية "تي بي إيه أو"، ليغطي جزءاً مثلثياً تعتبره طرابلس ضمن اختصاصها.

 

ويمكن اعتبار الملف الليبي أحد أبرز ساحات الصراع المصري–التركي، إلا أن تثبيت وقف النار منذ 2020 خلق واقعاً جديداً، تمثل في توازن غير معلن: قواعد تركية في الوطية ومصراتة في مقابل نفوذ مصري مع قوات حفتر في الشرق. كلا الطرفين أدركا أن الاستنزاف لا يخدم مصلحتهما، فاختارا القبول بتقاسم النفوذ.

 

أما في شرق المتوسط، فقد برز التنافس البحري كميدان حساس. مصر وقعت اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية مع اليونان عام 2020، رداً على اتفاق أنقرة مع حكومة طرابلس. لكن القاهرة، بعد سنوات من الاستقطاب، بدأت تميل إلى لعب دور الوسيط بين أنقرة وأثينا، انطلاقاً من قناعة بأن المكاسب الاقتصادية من استكشاف الغاز تفوق حسابات الصراع.

 

لكن، لا تزال تركيا خارج "منتدى غاز شرق المتوسط" الذي أسسته مصر مع اليونان وقبرص وإسرائيل، فيما يمثل ملف قبرص عقبة كبرى، إذ تصر أنقرة على الاعتراف بجمهورية شمال قبرص، في حين تدعم القاهرة وحدة الجزيرة.
وزادت سوريا المشهد تعقيداً، في ظل دعم أنقرة لحكومة الرئيس أحمد الشرع التي تمثل هاجساً أمنياً بالنسبة للقاهرة.

 

وفي السودان، يدعم البلدان الجيش السوداني، لكن الاستثمارات التركية في بورتسودان تتعارض مع خطط مصر لإقامة قاعدة بحرية على البحر الأحمر. كما أن ملف سد النهضة يعكس تبايناً آخر، فبينما تعتبره القاهرة تهديداً وجودياً لأمنها المائي، تستثمر أنقرة في إثيوبيا بمليارات الدولارات.

 

المشهد بين القاهرة وأنقرة اليوم يعكس تحوّل الشرق الأوسط ما بعد هجمات "حماس" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر والإصرار الإسرائيلي على "تغيير وجه الشرق الأوسط".

 

هذا التقارب المتسارع قد يعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي في شرق المتوسط والشرق الأوسط عموماً، لكنّ نجاحه يتوقف على قدرة الطرفين على تجزئة الملفات وإدارة الخلافات.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
اقتصاد وأعمال 9/29/2025 10:48:00 AM
في عام 1980، وصل الذهب إلى ذروته عند 850 دولارًا للأونصة، وسط تضخم جامح وأزمات جيوسياسية. وعند تعديل هذا السعر لمستويات اليوم، يعادل حوالي 3,670 دولارًا.
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟ 
النهار تتحقق 9/30/2025 9:34:00 AM
العماد رودولف هيكل ووفيق صفا جالسين معاً. صورة قيد التداول، وتبيّن "النّهار" حقيقتها.