هندسة المعارضة: القضاء أداة إردوغان لضرب "الشعب الجمهوري"؟

بالتوازي مع انطلاق مسار جديد للسلام مع الأكراد، يصعّد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حملته ضد المعارضة الرئيسية في البلاد، عبر استهداف "حزب الشعب الجمهوري" داخلياً وعلى مستوى البلديات.
اعتقالات تضرب بلديات المعارضة
منذ الانتخابات المحلية التي جرت في 31 آذار/مارس 2024، اعتُقل 11 رئيس بلدية من "حزب الشعب الجمهوري"، الذي حقق فوزاً كبيراً في صناديق الاقتراع. وشهدت البلاد نهاية الأسبوع الماضي موجة خامسة من الحملات القضائية، شملت أوامر تفتيش ومصادرة واحتجاز بحق 47 شخصاً، من بينهم خمسة رؤساء بلديات، وذلك في إطار أربعة تحقيقات منفصلة.
بالتزامن، قررت محكمة إسطنبول تأجيل النظر في الدعوى المرفوعة ضد الحزب بتهم تجاوزات في مؤتمره العام الأخير، الذي أفضى إلى إعادة انتخاب زعيمه الحالي أوزغور أوزيل، إلى 30 حزيران/يونيو الجاري، وسط تقارير إعلامية تتحدث عن احتمالية صدور قرار قضائي بإبطال نتائج المؤتمر، وتعيين الزعيم الأسبق كمال كلجدار أوغلو رئيساً موقتاً إلى حين عقد مؤتمر جديد.
رافقت هذه الادعاءات حملة ترويج لكلجدار أوغلو في القنوات الموالية للحكومة، ضمن استراتيجية باتت مألوفة لدى الأتراك، تقوم على "هندسة" صفوف المعارضة وضربها من الداخل، بدل مواجهتها مباشرة.
في عام 2016، تدخّل القضاء، بتوجيه من إردوغان، لمنع المعارضة الداخلية في "حزب الحركة القومية" من الإطاحة برئيسه التقليدي دولت باهتشلي، شريك إردوغان في الحكم. كما دعمت السلطة بقاء كلجدار أوغلو على رأس "حزب الشعب الجمهوري"، لقناعة مفادها أن "الزعيم العلوي" لا يشكّل تهديداً انتخابياً حقيقياً لإردوغان.
لكن ظهور أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، كخصم انتخابي قوي بعد فوزه مرتين على مرشحي إردوغان، دفع السلطة إلى استهدافه قضائياً عشية انتخابات 2023، في رسالة غير مباشرة إلى كلجدار أوغلو فحواها: "إذا ترشح إمام أوغلو، فسيأتيه الحظر".
واليوم، وبعد إعلان الحزب عزمه ترشيح إمام أوغلو لانتخابات 2028، تصاعدت الحملة القضائية ضده، وبلغت ذروتها باتهامه بفقدان الأهلية الدستورية للترشّح، إثر إلغاء شهادته الجامعية.
عودة كلجدار أوغلو عبر بوابة القضاء؟
قد يكون تأجيل المحاكمة إلى 30 حزيران/يونيو محاولة من الحكومة لكسب الوقت لاستعادة التوازن الاقتصادي، خصوصاً مع توقعات بزيادة تدفّق النقد الأجنبي خلال موسم الصيف، وتراكم احتياطيات البنك المركزي، بعدما تآكل نحو 60 مليار دولار منها عقب حملة الاعتقالات التي طالت إمام أوغلو ومسؤولين آخرين.
يُكافح "حزب الشعب الجمهوري" للحفاظ على كيانه المؤسسي ومنع إعادة هيكلته. فإلى جانب ملف المؤتمر العام، تُتابع النيابة العامة تحقيقاً جنائياً أعدّت بشأنه لائحة اتهام جديدة، تُصوّر كلجدار أوغلو كـ"ضحية" لتلاعب مزعوم في نتائج المؤتمر.
وفي حال قبول هذه اللائحة، من المحتمل أن تُصدر أوامر توقيف بحق 12 شخصية بارزة في الحزب، من بينهم رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إزمير جميل توغاي، رئيس فرع الحزب في إسطنبول أوزغور جيليك، عضو البرلمان باكي أيدونر، ورئيس بلدية بشيكتاش علي رضا أكبولات، بموجب اتهامات بخرق قانون الأحزاب السياسية رقم 2820.
الجلسة المنتظرة في 30 حزيران/يونيو يُتوقع أن تكون حاسمة، إذ ترجّح مصادر صدور قرار قضائي بتعيين وصي على الحزب، وربما بدمج القضية مع الملف الجنائي، ما قد يؤدي إلى إبطال نتائج المؤتمر الأخير واعتبار إدارة الحزب الحالية لاغية، وإعادة الإدارة السابقة بقيادة كلجدار أوغلو والمجلس الرئاسي المكوّن من 60 عضواً مقرباً منه.
أزمة بنيوية تتفاقم
تؤكد شخصيات بارزة في الحزب، في تصريحات لـ"النهار"، أن هذه التحركات القضائية قد تؤدي إلى انشقاق داخلي وتأسيس حزب جديد، على غرار ما حدث في حزب الحركة القومية، حين أسفر الصراع الداخلي عن انشقاق المعارضين وتشكيلهم حزب "الجيد".
لطالما اعتبر "حزب الشعب الجمهوري" نفسه ممثلاً للشرعية والسيادة، تاركاً مهمة المعارضة للأحزاب الأخرى، ولثلاثي القضاء والجيش والبيروقراطية. هذا الدور أضعف بنيته التنظيمية، وحرمه من التكيف مع المتغيرات التي شهدتها البلاد خلال العقدين الماضيين، مع صعود الأحزاب الشعبوية مثل "العدالة والتنمية".
ورغم تفاقم الأزمة الاقتصادية، واتساع الفجوة بين الطبقات، وانهيار الطبقة الوسطى، لا يزال الحزب عاجزاً عن التحوّل من خطاب المثالية الشعبوية إلى الواقعية السياسية، خاصة في ظل نقاشات كتابة دستور جديد، والتحولات الكبرى في الملف الكردي. وتُفاقم الاعتقالات والتحقيقات القضائية المتكررة من أزمته البنيوية، في وقت يسعى فيه لتحويل السخط الشعبي إلى مكاسب سياسية.