اضطراب ما بعد الصدمة وانتحار... الجيش الاسرائيلي يعاني من أزمة نفسية متصاعدة

تواجه إسرائيل أزمة نفسية متصاعدة بعد حرب غزة، إذ يعاني آلاف الجنود من اضطراب ما بعد الصدمة وارتفاع معدل الانتحار لدى الجنود، ما يثير مخاوف وقلقاً واسعاً في المجتمع الاسرائيلي.
بعد مرور عامين على الصراع بين إسرائيل و"حماس" في غزة، يواجه الجنود العائدون من القتال اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، بأعداد غير مسبوقة في إسرائيل، وفقًا لما يقوله إختصاصيو الصحة العقلية. منذ بداية الحرب، وهي الأطول في تاريخ البلاد، تم قبول أكثر من 11,000 جندي في برنامج إعادة التأهيل النفسي التابع لوزارة الدفاع للمصابين في الحرب، وفقاً لبيان الوزارة. ويُعتقد أن عشرات الآلاف غيرهم يعانون اضطراب ما بعد الصدمة من دون أن يتم تشخيصهم أو علاجهم.
وقالت الوزارة إن الجيش الاسرائيلي يحقق في ما لا يقل عن 37 حالة انتحار منذ بدء الحرب، أي أكثر من ثلاثة أضعاف العدد الإجمالي المسجل خلال الحرب الكبيرة الأخيرة التي خاضتها إسرائيل في غزة عام 2014، والتي استمرت 50 يوماً فقط.
وأفادت صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية أن 7 جنود إسرائيليين انتحروا نهاية 2023، و21 في عام 2024، و15 خلال النصف الأول من عام 2025 وحده، وهو رقم غير مسبوق. وقالت صحيفة "يديعوت أحرونوت" إن إسرائيل قد تواجه موجة كبرى من حالات الانتحار. وذكرت في تقرير آخر إن عدد الجنود الجرحى والمصابين باضطرابات نفسية ارتفع بمقدار 20 ألفاً منذ بدء الحرب. وتتوقع إدارة إعادة التأهيل أن بحلول 2028، سيتلقى حوالى 100 ألف جريح رعايتها، نصفهم تقريباً يعانون إصابات نفسية.
ومعظم حالات الانتحار الأخيرة بين الجنود الإسرائيليين مدفوعة بصدمات نفسية ناجمة عن الحرب، بما في ذلك الانتشار المطول في مناطق القتال، ومشاهدة مشاهد مروعة، وفقدان الأصدقاء، وفقاً لنتائج التحقيقات العسكرية الداخلية التي نُشرت في تقرير في آب/اغسطس الماضي.
وقالت صحيفة "واشنطن بوست" إن موضوع اضطراب ما بعد الصدمة، الذي كان من المحرمات في إسرائيل، لم يعد كذلك. وعلى عكس الماضي، هناك الآن اعتراف واسع النطاق بضرورة معالجة هذا الاضطراب.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي المختص في الشأن الفلسطيني والشأن الاسرائيلي فراس ياغي لـ"النهار" إن "ما نشرته صحيفة "واشنطن بوست" مبني على معطيات حقيقية واحصائيات بحيث أننا نتنحدث عن اكثر من 17.500 جندي من جنود الاحتياط والجيش الاسرائيلي يعانون ما يسمى ما بعد الصدمة في قطاع غزة نتيجة الحرب".
ويضيف: "عندما نتحدث عما بعد الصدمة في قطاع غزة نتحدث عن هذا الجندي الذي عندما يعود الى بيته والى المجتمع، لا يستطيع ان يتعايش في داخل البيت ولا في داخل المجتمع، تنتابه كوابيس اثناء النوم ولا يشعر أنه ينتمي للعائلة التي هو منها، إضافة إلى أن حجم الإجرام الذي تم في داخل قطاع غزة والوحشية الكبيرة أثر كثيراً على عدد كبير منهم لدرجة أنهم لا يستطيعون أن يتعايشوا مع ما قاموا به من عمليات قتل بلا سبب وعمليات تدمير بلا سبب، مما أدى إلى انتحار العديد من الجنود".
ويسعى الجيش الإسرائيلي جاهداً الى الاستجابة للارتفاع الحاد في حالات اضطراب ما بعد الصدمة. فهو يقوم لأول مرة بإرسال معالجين نفسيين إلى غزة وتوسيع نطاق تدريب الجنود المقاتلين على الإسعافات الأولية النفسية تحت النار وتشغيل خطوط ساخنة للانتحار.
ومدى العامين الماضيين، بدأت مئات المبادرات بمعالجة الكم الهائل من الحالات الجديدة. وتشمل هذه الجهود حوالى 15 مزرعة علاجية بالإضافة إلى برامج تدمج العلاج بالكلام المنظم مع أساليب مثل العلاج بمساعدة الخيول وركوب الأمواج والعمل الزراعي والحمامات الجليدية.
ويقول باحثون في عيادة اضطراب ما بعد الصدمة في جامعة تل أبيب، إن جنود الاحتياط العائدين من القتال معرضون بشكل خاص للخطر لأنهم غالباً ما يجري استدعاؤهم للخدمة مرة أخرى حتى أثناء تلقيهم العلاج، ويتم إعادتهم إلى مشاهد الدمار والموت نفسها التي ربما تكون قد أصابتهم بالصدمة في المقام الأول. كما أن الطبيعة المفتوحة للحرب مع عدم وجود نهاية واضحة لها في الأفق تفاقم الشعور بالصدمة لدى كثيرين.
مع تراكم مئات الأيام من الخدمة على عاتق الاحتياطيين، وتزايد الانتقادات الموجهة الى استراتيجية الحكومة الحربية من داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نفسها، أصبحت المخاوف بشأن الأثر الذي يحدثه الصراع على القوات في المقدمة. ظهر جنود يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة أمام لجان برلمانية وفي احتجاجات شوارع، مطالبين بإصلاحات تشريعية لتحسين الوصول إلى الرعاية الصحية. ويتم تناول هذه القضية الآن بشكل روتيني في برامج الأخبار الصباحية وفي الأحداث الثقافية الرئيسية.
من جهتها، قالت صحيفة "ليبراسيون" إن عدداً من أمهات الجنود الإسرائيليين يتهمن الجيش بعدم حماية أبنائهن بما فيه الكفاية، ويطالبن بوقف القتال في القطاع. وأشارت الصحيفة إلى أن ملامح خطاب جديد داخل المجتمع الإسرائيلي بدأت تظهر منذ اندلاع الحرب على غزة، وهو خطاب قادم من هوامش الرأي العام، لكنه آخذ في الاتساع، يتحدث عن معاناة الجنود الإسرائيليين أنفسهم، وعن الثمن النفسي والعاطفي الذي دفعوه هم وعائلاتهم.
وعلى رغم أن الخدمة العسكرية واجب وطني في إسرائيل، فإن آثار الحرب الطويلة وتزايد الشهادات عن الصدمات النفسية والانتحارات دفعت بعض العائلات، ولاسيما منها الأمهات، إلى التشكيك في شرعية استمرار هذه الحرب، بحسب الصحيفة.
مع تصاعد الأزمات النفسية بين الجنود، تجد إسرائيل نفسها أمام تحدٍ داخلي متنامٍ، بحيث لم تعد آثار الحرب تُقاس بالخسائر الميدانية فحسب، بل أيضاً بالندوب العميقة في النفوس.