ثمانية ملايين إيراني في الخارج: قوّة كبيرة يخفق النظام في استقطابها
تُعد إيران من الدول التي يهاجر مواطنوها إلى الخارج ولا يفكر كثيرون منهم بالعودة. حتى حين يحققون نجاحات سياسية أو اقتصادية أو علمية في بلدان إقامتهم، يفضلون عموماً عدم الارتباط أو التفاعل مع الحكومة الإيرانية. روابطهم تكون أقوى مع الثقافة والفن والعائلة والوطن الأم، وليس مع النظام السياسي أو المؤسسات الحكومية.
ينبع هذا السلوك من الأسباب والدوافع التي أدت إلى هجرة واسعة للإيرانيين عقب ثورة عام 1979، والتي كانت في معظمها نتيجة عدم رضاهم عن سياسات الجمهورية الإسلامية. غادر ملايين الإيرانيين بحثاً عن حياة أكثر حرية ورفاهية، حيث يمكنهم تحقيق فرص تجارية أفضل، والاستفادة من تقدم أكبر، والاستمتاع بنوعية حياة محسنة. كانت هذه الأهداف مهمة جداً لهم، حتى إنهم تحملوا ألم البعد عن الوطن والعائلة. خلال العقود الأربعة الماضية، اتخذ عدد كبير من الإيرانيين في الخارج موقفاً نقدياً ومعارضاً لنظام الجمهورية الإسلامية، ووصل بعضهم إلى حد المعارضة الصريحة للحكومة وسياساتها. وبرزت قوة هذه الجالية بوضوح خلال الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها إيران عام 2022، حين دعموا المتظاهرين في حركة "المرأة، الحياة، الحرية"، ما يعكس الإمكانات الهائلة لهذه الجماعة التي تضم ملايين الأفراد في التأثير على التطورات داخل إيران.
على الجانب الآخر، داخل دوائر صنع القرار في الجمهورية الإسلامية، ظلّ هناك منذ ثلاثة عقود مناصرون للأمن والمصالح الوطنية يؤمنون بضرورة تبني الحكومة سياسات تحافظ على شعور الإيرانيين في الخارج بالانتماء إلى وطنهم وتوطيد صلتهم بالحكومة، ليكونوا مدافعين عن مصالح إيران أينما كانوا. إلا أن ضيق الأفق والقيود القانونية شكلا عائقاً دائماً أمام تنفيذ هذه الرؤية. فقبل 25 عاماً، خلال حكومة محمد خاتمي، تأسس المجلس الأعلى للإيرانيين في الخارج، إلا أن الخطوات العملية في هذا الصدد لم تكتمل. كما لم تلقَ مقترحات عملية مثل منح الجالية الإيرانية التي تضم نحو 8 ملايين شخص تمثيلاً في مجلس الشورى، أو السماح لهم بالمشاركة في انتخابات البرلمان، اهتماماً حقيقياً، على الرغم من تمكينهم من التصويت في الانتخابات الرئاسية من الخارج. في المقابل، تمتلك بعض المدن الإيرانية التي يقل عدد سكانها عن 100 ألف نسمة ممثلين في البرلمان.
اقتُرح أيضاً إزالة العوائق القانونية أمام عودة الإيرانيين المختلفين مع نظام الجمهورية الإسلامية أو الذين يخشون العودة، لكن لم يتحقق أي تقدم في هذا المجال. يخشى بعض العلماء والفنانين العودة إلى إيران خوفاً من الاعتقال في المطارات أو فتح ملفات قضائية ضدهم. كما تم اقتراح منح إعفاءات وتسهيلات جاذبة لأصحاب رؤوس الأموال من الإيرانيين لاستخدام جزء من ثروتهم، التي تُقدّر بتريليوني دولار، في تطوير البلاد، لكن هذه المبادرات لم تُفعّل أيضاً.
نتيجة لذلك، لم يقتصر الأمر على قلة عودة الإيرانيين في الخارج، بل إن موجة هجرة الجيل الجديد تزايدت خلال السنوات الأخيرة، إذ يسعى العديد من الشباب والفتيات منذ المراهقة لتعلم لغات أجنبية تمهيداً للهجرة.
خلال الحرب الأخيرة التي استمرت 12 يوماً بين إسرائيل وإيران، واجهت الحكومة الإيرانية إحراجاً كبيراً بشأن سياساتها السابقة، إذ اتحدت الجالية الإيرانية في الخارج، رغم معارضتها للعديد من سياسات النظام، في دعم إيران وسلامتها الإقليمية وأمنها القومي، ورفض العدوان الإسرائيلي. بل سعى العديد من الإيرانيين المؤثرين في الخارج للتأثير على قرارات حكوماتهم عبر الضغط والتظاهرات لصالح إيران.

بعد توقف الحرب، عبّر العديد من المسؤولين الإيرانيين، بمن فيهم رؤساء الجمهورية والبرلمان والقضاء، عن تقديرهم وامتنانهم للجالية في الخارج، وطالبوا بإعادة النظر في طريقة تعامل النظام معهم. وفي هذا السياق، قدّمت الحكومة مشروع قانون إلى البرلمان لإضفاء الطابع القانوني على دعم الإيرانيين في الخارج، وهو مشروع يخضع حالياً للدراسة والمصادقة، ويُعتبر خطوة إيجابية. لكن المشكلة تكمن في أن الإيرانيين في الخارج يراقبون الأوضاع الداخلية والتطورات في إيران قبل أن يمنحوا ثقتهم للنظام. فهم، رغم هجرتهم إلى مختلف أنحاء العالم من اليابان إلى أوروبا وأميركا ودول الخليج، يظلون متابعين دقيقين لتطورات بلدهم، بينما يعبّرون عن استيائهم من ضيق الأفق والقرارات والشعارات المتطرفة والسياسات المغلقة.
لذا، بينما تُعدّ قوانين تسهيل عودة الإيرانيين في الخارج والتنقل من إيران وإليها خطوة إيجابية، فإن القوة الهائلة لثمانية ملايين إيراني في الخارج لن تُفعَّل لصالح البلاد إلا إذا شهد هؤلاء تحسّناً فعلياً في السياسات والقرارات داخل إيران، ورأوا رضا الشعب عن الحكم. وفي فترة ما بعد الحرب، يترقب الشعب داخل إيران تغييرات واسعة في هيكلة الحكم وسياسات الجمهورية الإسلامية وقراراتها.
نبض