من الإليزيه إلى الزنزانة... ساركوزي يدخل "لاسانتيه" بقضيّة أثارت الذهول في فرنسا

أصبح نيكولا ساركوزي أول رئيس فرنسي سابق يُسجن في تاريخ فرنسا الحديث، في قضيّة هزت الرأي العام الفرنسي وأدّت إلى تهديد القضاة.
أُرسل ساركوزي إلى سجن "لاسانتيه" في باريس اليوم الثلاثاء، وهي المرة الأولى منذ أكثر من نصف قرن التي يُسجن فيها رئيس فرنسي سابق، بعد سجن فيليب بيتان، الرئيس المتعاون مع النازية خلال الحرب العالمية الثانية، بتهمة الخيانة عام 1945. ولم يسبق أن دخل أيّ رئيس دولة في الاتحاد الأوروبي إلى السجن.
رسم تصويري لزنزانة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزيhttps://t.co/ATRJ3gd8y3 pic.twitter.com/3mH9IodnJz
— Annahar Al Arabi (@AnnaharAr) October 21, 2025
أُدين ساركوزي بالتآمر للحصول على تمويل لحملته الرئاسية لعام 2007 من الزعيم الليبي آنذاك معمر القذافي. وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات الشهر الماضي. تورّط في عدة محاكمات رفيعة المستوى منذ تنحّيه عن منصبه عام 2012، وأُدين بالفساد واستغلال النفوذ وانتهاكات الإنفاق على الحملات الانتخابية. لكن هذه القضيّة هي الأخطر على الإطلاق، كما يتضح من الحكم، والأكثر تعقيداً.
تفاصيل قضيّة أثارت الذهول
حُكم على ساركوزي في أواخر أيلول/سبتمبر بالسجن بعدما أدين بالسماح لأقرب معاونَين له حين كان وزيراً للداخلية، وهما بريس أورتوفو وكلود غيان، بالتواصل مع القذافي للحصول على تمويل غير قانوني لحملته الانتخابية. ولم يتلقّ في النهاية هذا التمويل. وعقد غيان وأورتوفو في هذا السياق في نهاية 2005 اجتماعات مع عبد الله السنوسي مدير الاستخبارات الليبية المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة غيابياً في فرنسا لدوره في الاعتداء على طائرة فرنسية عام 1989 الذي أودى بـ170 شخصاً بينهم 54 فرنسياً.
وأثار القضاة الذهول في قاعة المحاكمة بإصدارهم أمراً بإيداعه السجن بالتزامن مع حكم إدانته بـ"التآمر الجنائي"، بدون انتظار محاكمة الاستئناف. وتذرعوا بـ"خطورة الوقائع الاستثنائية" ليحددوا للرئيس السابق مهلة قصيرة فقط لترتيب أوضاعه قبل دخوله السجن. وإن كانت المحكمة أقرّت بأنه لم يتم التثبت من وصول أموال في نهاية المطاف إلى صناديق حملته، فإنها أفادت في الحكم بأن التحقيق كشف عن حركة أموال انطلاقاً من ليبيا "بهدف تمويل" الحملة. وقال محاموه إن ساركوزي تقدّم بطلب للإفراج عنه فوراً بعد دخوله السجن.
القضية أثارت الجدل في فرنسا
لا يتوقع الكثير من المراقبين أن يقضي ساركوزي مدة عقوبته كاملةً، لكن إدانته أثارت بالفعل جدلاً حاداً في البلاد، خاصة أن القضاة المنخرطين في القضية استُهدفوا على وسائل التواصل الاجتماعي، وتلقى بعضهم تهديدات بالقتل، وفقاً لرئيس محكمة الاستئناف في باريس جاك بولارد.
وأجّجت مشاكل ساركوزي القانونية نقاشاً وطنياً حول قضيّة مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرّف التي أُدينت بالاختلاس وحُكم عليها بحظر انتخابي لمدة خمس سنوات في نيسان/أبريل. في ذلك الوقت، وعلى الرغم من الأدلة الدامغة التي جُمعت لإدانتها، اتهم أنصارها القضاة بالتلاعب بالعمليات الانتخابية.
ساركوزي، الذي جُرّد أيضاً من وسام جوقة الشرف، أعلى وسام فرنسي، مُصرّ على براءته، وقد شكّك مراراً في الحكم. وقال في مقابلة: "لستُ أنا من يشعر بالإهانة، بل فرنسا، بسبب هذه الممارسات التي تتعارض مع سيادة القانون"، مُصرّاً على أن الحكم "جائر بقدر ما هو مُخزٍ". في وقت سابق من هذا الشهر، وخلال تجمّعٍ مع أقرب أصدقائه وزملائه، شبّه نفسه بألفريد دريفوس، النقيب اليهودي في الجيش الفرنسي الذي اعتُقل عام 1894 بتهم تجسّس كاذبة بسبب معاداة السامية. ونُقل عنه قوله: "لم تُكتب نهاية القصّة بعد".
وفي افتتاحية، حذّرت صحيفة "لو موند" الفرنسية من أن رد فعل ساركوزي يُؤجّج "صورة ترامبية كارثية للنقاش في فرنسا"، في وقتٍ تتزايد فيه الضغوط السياسية على القضاء في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، احتفظ ساركوزي بنفوذه داخل حزبه المحافظ منذ تنحّيه عن منصبه عام 2012، وهو محامٍ سابق ارتقى سريعاً في أروقة السياسة الفرنسية ومعروف بطاقته القتالية مدعومة بممارسة الجري الصباحي وذكائه الحاد.
وتلقى ساركوزي الذي يُعدّ شخصية مرجعية في اليمين الفرنسي ويستشيره قادته بانتظام، دعم معسكره. وقد زار الجمعة قصر الإليزبه حيث استقبله إيمانويل ماكرون الذي صرّح بأن هذا اللقاء "طبيعي على الصعيد الإنساني". وقال وزير العدل جيرالرد دارمانان، وهو مقرّب من الرئيس السابق، إنه سيزوره في السجن، معرباً عن قلقه من "الجوانب الأمنية" خلال سجنه.
الزنزانة... وساعاته الأخيرة قبل السجن
لضمان سلامته، سيُوضع ساركوزي في الحبس الانفرادي لأسباب أمنية. وسيُسمح له بثلاث زيارات أسبوعياً وساعتين يومياً لممارسة الرياضة. وسيُحتجز في زنزانة مساحتها تسعة أمتار مربعة. وهذا من شأنه أن يجنّبه التفاعل مع السجناء الآخرين أو التقاط صور له بأحد الهواتف المحمولة المنتشرة بشكل واسع في السجن.
وصرّح ساركوزي لوسائل الإعلام الفرنسية بأنه سيقرأ سيرة حياة يسوع وقصّة ألكسندر دوماس "كونت مونت كريستو".
قال محامي ساركوزي كريستوف إنغرين لقناة "بي إف إم" إن ساركوزي يخطط لكتابة كتاب عن تجربته في السجن. وقال محاميه جان ميشيل داروا إنه جهّز نفسه "ذهنياً" للاحتجاز. وأفاد بأنه "أولًا، حزم حقيبة بها بعض السترات الصوفية نظراً إلى برودة السجن، وسدادات أذن بسبب كثرة الضجيج".
وقالت صحيفة "لا تريبيون ديمانش" إن ساركوزي جهّز حقيبة سجنه بالملابس والصور العائلية العشر المسموح له بإحضارها.
سجن "لاسانتيه"
على مدار القرن والنصف الماضيين، حرمت جدران سجن "لا سانتيه" العديد من الرجال الفرنسيين المشهورين من حريتهم.
كما قضى أحد أبرز الإرهابيين المطلوبين عالمياً في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إليتش راميريز سانشيز، المعروف بـ"كارلوس الثعلب"، بعض الوقت في "لا سانتيه". وكذلك فعل جاك مسرين، القاتل السيئ السمعة وسارق البنوك في السبعينيات، الذي صُوّرت مسيرته الإجرامية في فيلم عام 2008 من بطولة فينسنت كاسل. ومن بين السجناء المشهورين الآخرين ألفريد دريفوس.
ولن يكون ساركوزي حتى أول زعيم عالمي في السجن. مانويل نورييغا، الديكتاتور السابق لبنما أمضى بعض الوقت هناك.
ومن بين المعتقلين السابقين المشهورين أيضاً الشاعر غيوم أبولينير، المتداول المالي جيروم كيرفيل، الموظف الحكومي والمتعاون مع النازيين موريس بابون، رجل الأعمال والسياسي برنار تابي، ووكيل العارضات جان-لوك برونيل.
بُني السجن عام 1867، بتصميم مميز لمنح السجناء شعوراً بالمراقبة المستمرة، وخضع أخيراً لبرنامج تجديد وتحديث استمر أربع سنوات، وأُعيد افتتاحه عام 2019.
قضيّة ساركوزي تمثل لحظة فارقة في التاريخ الفرنسي، وسجنه يفتح الباب أمام جدل واسع: هل تُعزّز هذه الخطوة مكانة القضاء كمؤسسة مستقلة في الديموقراطيات الغربية؟